حكمت الخبرة والتاريخ الطويل لصالح المسرح العراقي في الدورة الاخيرة لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي. ويبدو أن الاحتلال والظروف اللاإنسانية التي يعيشها المواطن والمبدع العراقيان تفرز فنا به ألق وإبهار وجرأة على التجريب. جاءت الكوميديا السوداء ''تحت الصفر'' للفرقة القومية العراقية للتمثيل لتضحك جمهورالمهرجان وتبكيه من الألم ولتفوز بجائزتين من جوائز المهرجان الست هما أفضل ممثل وافضل سينوغرافيا. تبدأ الأحداث بلقاء بين شاب يبحث عن عنوان وكهل يعيش في ملعب مهجور خوفا من المجهول ومن القصف الذي لا يميز بين مدني ومسلح. ويقنع الكهل الشاب بالبقاء لليلة حتى تهدأ الأمور ويدور الحوار بينهما مؤلما حتى الضحك.
اعتمدت سينوغرافيا العرض على تماثيل هياكل وحواجز طرق أو حواجز العدو في السباقات الرياضية وملعب الكرة والشبكة التي أحيانا تتحول الى هدف للعب أو تصطاد هي الهدف أو الفريسة.
في الملعب
وبدأ العرض بشاب في زي المصارع أو لاعب الكاراتيه يدخل الملعب ويبحث عن أي أحد يتحدث اليه ليدله على المكان الذي يقصده فيجد عجوزا منتظرا في المكان لا يغادره ويدعوه للبقاء معه الليلة لينتظر النهار وهي اشارة دالة على نهار العراق المنتظر. لكن الأمان النسبي في الملعب المهجور يتبدد مع طلوع النهار فيتم قصف الملعب نفسه ليواجه الشاب والعجوز حقيقة ان الأمان مفقود في كل مكان.
ولم ينس ثابت الليثي كاتب النص أن يشير الى حالة الاقتتال الداخلي بين الأهل فكتب مشاهد تضم صراع البطلين ورغبة كل منهما في اخضاع الآخر بالقوة ليرتديا قفاز الملاكمة وتنتهي المعركة بلا غالب ولا مغلوب لان كلا منهما منهك متعب وخاسر.
رغم وضوح القضية في العرض فإن المخرج عماد محمد حاول الابتعاد عن المباشرة ولم يظهر ما يدل على الاحتلال باستثناء الخلفيات الصوتية للقصف والكلمات الانجليزية التي تسللت الى حديث العجوز والتي ربما دلت على اضطرار العراقيين للحديث بلغة المحتل لضرورة التعامل معه.
السخرية من الموت والقتل وحالة الجنون السائدة كانت أبرز سمات العرض فالجنون لايمكن مواجهته الا بالجنون. حتى عندما يريد العجوز أن يطمئن الشاب على حياته يقول له اطمئن ستبقى حيا لأن عزرائيل مشغول جدا بالخارج.
وأراد المخرج أن يرسل اشارة الى أن القوى الكبرى حولت العالم لملعب كرة ورغم ضيق مساحة الفضاء المسرحي جاءت حركة الممثلين مليئة بالحيوية والاختيار الذكي للموسيقى خاصة أغنية ''أنا وشادي'' لفيروز. واختار المخرج أن ينهي العمل بنزول الثلج والصقيع ليملأ المسرح في اشارة إلى تجمد الأوضاع.
عبد الستار البصري أو ''أبو عوف'' بطل العرض أشادت لجنة التحكيم بحيويته وشبابه رغم أن عمره 61 عاما ومنحته جائزة أحسن ممثل مناصفة مع زميله يحيى ابراهيم.
كان عبد الستار رمزا للعراق المغلوب المحاصر بالحواجز وحظر التجول بينما جاء الشاب يحيى ابراهيم ممثلا لكل الباحثين عن الأمان حتى ولو بمغادرة البلد والشباب التائهون في الطرقات لا يعرفون الى اي مكان يمضون بينما جاءت الدمي على جانبي المسرح لتشير الى حضور انساني باهت بارد غير محسوس قد يكونون جثثا او جنودا باردين. وانفعل الجمهور بكلمة عبد الستار البصري في العرض ما من ملاذ آمن لكنهم في النهاية سيمضو ن ونبقى كما انفعل بهتافه آخر العرض يحيا العراق.
عبد الستار البصري الذي كان محل اعجاب كل من شاهد العرض بسبب حيويته التي عكست حالة تألق قال عن الجائزة: للمرة الثانية على التوالي يحصل التمثيل العراقي على جائزة أحسن ممثل في المهرجان وهي شهادة مهمة لفن التمثيل العراقي العريق كما أنها رسالة تؤكد أن الممثل يبقى أهم عناصر المسرح حتى التجريبي منه وأنه لا صحة لاعتقاد البعض بأن التجريب يعني استبعاد التمثيل لصالح الرقص والأداء الحركي.
وعن الحيوية التي ظهر بها وكانت محل اعجاب الكثيرين قال: هذه نعمة من الله كما أنني مؤمن بأهمية أن يحافظ الممثل على لياقته لأنها جزء مهم من أدواته. ومن دونها يتراجع مستواه واللياقة التي أقصدها لاتتعلق بالسن هي نفسية في المقام الأول. وهناك ايمان الممثل بالرسالة التي يريدها العرض مما يجعله يبذل كل طاقته وكان هذا واضحا في أدائي مع زميلي ولاحظ الناس العرق الذي نغرق فيه بعد العرض وهو على حجم الجهد الذي بذلناه.
وعن هتافه للعراق بعد العرض وبعد سماع خبر الحصول على الجائزة قال: هي لحظة اجدني أريد أن أصرخ فيها بأن العراق لايزال حيا وسيخرج من تحت الرماد وأن بلادي المحتلة لاتزال قادرة على تقديم ابداع حقيقي رغم ما مرت به من محن وأن الذين يريدون تركيع العراق لن ينجحوا وسيظل بلدي واقفا على قدميه يتحدى المحن وتذكرت عند سماع نبأ الجائزة واستقبال الجمهور للعرض كل عراقي وشعرت بفخر لأنني من هذا البلد.
عبدالستار أو ''أبو عوف'' الذي قبل خشبة المسرح بعد العرض تحية لفن المسرح كان يشعر بانتصار كبير على عكس الواقع الذي صورته المسرحية عندما كان يرفع يده هو وزميله مستسلمين مع سماع طلقات الرصاص أو أصوات المدافع.
حالة انتظار
اما المخرج عماد محمد فقال: ''تحت الصفر'' هو أفضل ما يمكن أن نصف به الوضع في العراق فالوضع متجمد ولا يزال في انتظار الحل بزوال الاحتلال. وانا مؤمن بأن كسر الجمود لن يكون الا بيد العراقيين أنفسهم. واختيار الملعب كان دلالة على أن العراق تحول الى ملعب.
الأمل يجاور الألم في ''تحت الصفر'' فرغم الواقع القاتم الذي صوره العرض قرر مخرجه أن ينهيه بمشاهد سينمائية تصور العجوز والشاب في ميادين بغداد يتجولان في استمتاع بلا خوف ولا ترقب ولا حواجز وجنود في الشوارع يتبادلان القفشات والضحكات ويصوران التماثيل ويلتقطان الصور التذكارية في اشارة الى الأمل في عراق آمن أو هو حلم يحلمانه معا. ويتوقف الشريط ليعود ظهور الممثلين على المسرح متجمدين لينزل الجليد في اشارة لتجمد الأوضاع. وتظل أسماء قاسم محمد والراحل عوني كرومي وصلاح القصب ومن بعدهم ناجي عبد الأمير وكاظم نصار واحمد حسني موسي من رموز التجريب في المسرح العراقي الذي يعاني أشد معاناة هذه الأيام ورغم ذلك لم يمنع هذا العراقيين من ان يقولوا نحن هنا واقفون بفوز عرضهم ''تحت الصفر'' بجائزتي التمثيل الرجالي والسينوغرافيا والمنافسة بقوة على جوائز أحسن عرض وأحسن اخراج.
المراقبون يؤكدون أنه رغم الدمار لاتزال هناك ميزة مهمة هي ابتعاد السياسيين عن المسرح مع أن الحالة الأمنية في العراق جعلت عروضه نهارية حيث أن الخطر قائم وعمر المسرح العراقي أكثر من 125 عاما وبه فرقة قومية يصل عمرها للأربعين عاما وتوجه الفنان العراقي للتجريب هروبا من الخطوط الحمراء فلجأ للتأويل والاسقاط مفضلا الاتجاه نحو التوازن بين المرئي والمسموع ايمانا منه بأن المسرح بصري أكثر مما هو صوتي. |