غالباً ما تشيع الرؤية المتقدمة في استبصاراتها، والمستبقة لحال الظرف المرهون باتجاه ما.. والجميع لا يغفل دور المبدع في الانسحار بحال تلك الرؤية، فيكون المنجز اقدر على المواجهة بتنوع وجدية وثبات.. ولا غرابة اذا ما انحدر الحديث ـ هنا ـ الى ماحققه الفن التشكيلي العراقي الحديث، على مدى اكثر من نصف قرن، من مكابدة في سبيل تقدم مظهر حقيقي لمثل هكذا رؤية، ويفتعل دوره الفكري ليصنع ذاكرة تتقن التصاعد، وتعتلي الثقة بالجذور والموروث، بقدر اتساع طموحها والتشبث باهمية الخطوة القادمة.
فلا مراء في الحقيقة التي تشير الى ان الحركة التشكيلية في العراق، قد اختطت لنفسها طريقاً لفت الانتباه اليه عبر ما اثارته ـ هذه الحركة ـ من اسئلة ومسوغات.. وبذات الاتجاه وجد الابداع التشكيلي في العراق نفسه قد اشر مبكراً منطلقات.. دفعت المهتمين بدراسة هذا النشاط وتأريخه، الى تأسيس وجهات نظر وفرضيات متعددة، حول خصوصية تجربة الفنان التشكيلي العراقي، وبدايات الابتكار الفني لديه، وموضوعاته، والتأثيرات الاخرى التي وجدت طريقها اليه.. فنزار سليم يرى ان الحركة التشكيلية في العراق بدأت في اوائل القرن العشرين من خلال جهود مجموعة من الرسامين الهواة، ابرزهم عبد القادر الرسام والحاج محمد سليم ومحمد صالح زكي وعاصم حافظ(1).. بينما يشير جبرا ابراهيم جبرا الى اربعينات القرن العشرين فترة الاكتشاف والدهشة والتوقع.. فقد بدأت الاربعينات بهجرة بعض الفنانين البولونيين الى بغداد بسبب الحرب فتعرف اليهم جواد سليم وفائق حسن وعطا صبري وغيرهم.. واول ما فعل البولونيون هو ان نبهوا هؤلاء الرسامين الشباب الى قيمة اللون وامكاناته الهائلة(2).. في حين يرى الفنان والناقد عادل كامل ان بداية الرسم بالمعنى الضيق في العراق، قد بدأت في فترة العشرينات، مؤكداً ان الباحث في تاريخ الفن في العراق، يستنتج من فنون (الخزف ـ صناعة السجاد ـ وبعض المسائل الفلكلورية الاخرى) مسائل غاية في الاهمية.. فدراسة الخزف او صناعة وزخرفة السجاد، والصناعات الفلكلورية المتعددة، لابد ان تكشف عن اصالة من نوع فريد، وبالذات دراسة فن الصياغة، وفن الجداريات الخاص بالمساجد.. وهذه الدراسة ـ كما يعتقد عادل كامل ـ ستكشف عن رافد عظيم للفن التشكيلي.. الا ان عادل كامل يعتبر او يفترض ان البداية الفعلية للفن التشكيلي في العراق قد بدأت في الخمسينات ففي تلك السنوات تشكلت الجماعات الفنية (الرواد ـ بغداد للفن الحديث ـ الانطباعيين) اذا بدأت حينذاك القيمة الفنية تفرض نفسها، لا القيمة الشكلية المجردة للافكار(3) ويؤكد حسين جليل الافتراض نفسه فهو يقول (منذ بداية الخمسينات اخذت في الظهور بعض الارهاصات، بدأنا نتحسسها من خلال كتابات واعمال (جيل الرواد) تشير الى ان الفن العراقي الحديث قد بدأ مع بداية الخمسينات، يكسر اطار الزخرفية والتزيينية، ويمتد بجذوره عبر المضامين الرومانسية الى الواقع في بلادنا.
وبحكم تعدد المصادر التي استلف منها الفنان موضوعاته، والافكار الخاصة التي تبناها في تأسيس بنى مادته الابداعية، فضلاً عن ميزته في البحث عن الصلة الحقيقية التي تربطه بواقعه وهويته وحضارته.. كل ذلك جعل الفنان التشكيلي في العراق ـ مرحلة التأسيس ـ يعمل بشكل جدي على خلق حوار تصب فيه منطلقات (فكرة) توثق هيئة المنجز الفني، وقضاياه، واساليب عمله الابداعي.
وبعيداً عن المبالغة، نجد ان البحث عن المصادر الاساسية التي يستلهم منها الفنان موضوعاته، يحدد الفهم الذي يفضي الى تحديد امكانية هذا الفنان في البحث النظري والتطبيقي (العملي) ويبدو ان موضوع التعرف الى العملية الابداعية.. لا يقاس بسياقات الكمية الانتاجية، بقدر ما يتحدد بالقدرة المتوقعة لمجال النتاج الابداعي.. الذي تأسس على المهارة وطريقة الاستلهام ومعالجة الموضوع الفني.. وحول هذه الملحوظة نجد الفنان العراقي قد تنبه منذ البداية الى ذلك.. فنراه يعتمد تحقيق اليات التميز في العمل الابداعي، والحرية التي تتحقق من ذلك (في الوقت الذي تعبر الحضارة الغربية عن نفسها في مضمار الفن، تعبيراً يسم العصر الراهن بالتوق الى تحقيق الحرية خلال النزعات الحديثة، يجهل الجمهور لدينا اهمية فن التصوير كمقياس لدى يقظة البلاد ومعالجتها لمشكلة الحرية الحقة.. الا ان اتجاهاً جديداً في فن التصوير سيتولى حل المشكلة في يقظة عصرية تقطع نفس الطريق التي قطعها. قطع المراحل الاولى منها فنان القرن الثالث عشر الميلادي، ولسوف يجد الجيل الجديد ان بداية ابتدأها اسلافهم تتلمس طريقها رغم الظلمة والخطورة.. ومن هنا سيظل يتردد في ذهن الفنان باي وسيلة ترى سيحقق هذا الشيء الجديد؟ وتظل تراود ذهنه شتى الحلول، ويظل يخوض شتى التجارب كيما يحقق ما يكرس له دماغه وعينه ويده..)(4).
إذن على مدى اكثر من نصف قرن اسهم الفنان التشكيلي العراقي في تأطير ممارسة تنوعت من حولها الرؤى والاساليب والمؤثرات.. فكان النتاج جهداً كبيراً، تأصلت فيه عناصر وقيم لتجربة جمالية وفكرية واعية.. فكانت فترة الاربعينات، فترة تحول وانطلاق.. (تحول عن المفاهيم الساذجة والاكاديمية نحو التجديد.. والانطلاق عبر التقنية الحديثة)(5).
ضرورة تاريخية
تأتي ظاهرة (الجماعة الفنية) التي تبلورت كاتجاه له كيانه في مسيرة الفن التشكيلي في العراق كـ (ضرورة تاريخية اقتضاها نضوج الوعي الفني لدى الفنان العراقي الى الحد الذي اخذ فيه يتحمس للممارسة الفنية، بصورة غير فردية.. كما كانت ضرورة اجتماعية وفكرية اقتضاها نمو الجمهور الحديث في مطلع نشأته.. اذ هو يستكمل جميع ابعاد وجوده الانساني)..(6).
الا ان الذي يبقى، هو معرفة الدوافع والاسباب التي كانت وراء تأسيس الجماعات الفنية.. فالفنان اسماعيل الشيخلي العضو الاقدم في جماعة الرواد التي تأسست عام 1950 بزعامة الفنان فائق حسن(7).. يرى ان هذه الجماعة تكونت اصلاً من اصدقاء يجمعهم حب الفن.. الموسيقى.. الرسم.. الطبيعة.. في الوقت الذي كانت فيه بغداد تفتقر الى هذا اللون من الناس.. في حين ان جماعة بغداد للفن الحديث التي تأسست عام1951 بزعامة الفنان جواد سليم(8).. قد انبثقت بعد ان (فكر جواد سليم بتكوين مجموعة ذات اتجاه فكري واحد متميز)(9).. بينما يرى الفنان شاكر حسن آل سعيد، ان انبثاق الجماعة الفنية جاء كرد فعل لوعي الفنان الانساني والاجتماعي.. ومدى اهتمامه بالعالم، وضرورة توظيف ذلك من خلال العمل الفني ذاته.. وان هذا الاهتمام والتوظيف جاء على مستويات مختلفة بحسب توجه الفنان ومرجعياته وطبيعة تفكيره.. الا ان (آل سعيد) يعود ويستدل بجماعة الانطباعيين العراقيين التي اسسها الفنان حافظ الدروبي عام 1954ليضع دافعاً اخر يعتقد فيه انه سبب في تأسيس هذه الجماعة، فهو يعتقد ان ظهورها جاء في غمرة حماس من قبل جيل الفنانين المدرسين، من اجل الزعامة الفنية.. فكانت محاولة للتعبير عن (الهوية التعليمية) في الفن، وكأنها الصيغة النهائية لمدرسة فكرية مثالية، عنى ـ حافظ دروبي ـ بتأسيسها من طفولته، واتم طبخها في كل ادوار تطوره الفني..ومفاد هذه المدرسة ان العمل الفني هو ربط الاواصر ما بين الفنان وعالمه ربطا محكماً، يتسم بالشمولية والنزعة التجريبية معاً.. وهذه الظاهرة ـ كما يعتقد آل سعيد ـ اذ ما دُرست ، فلا بد لنا من ربطها بطبيعة الفكر العراقي الانساني والثقافي والاجتماعي والسياسي(10).
وفي جانب آخر ينتهي(آل سعيد) الى ان ما حدث من انفجار سيكولوجي ـ اجتماعي في العراق ـ عبر الاحداث السياسية ما بين عامي 1947 ـ 1948، كان مدعاة لتفاقم الوعي الجماعي في العمل الفني، كضرورة من ضرورات اهتمام الانسان بالعالم عبر الفكر الفني نفسه.. لذلك فهو يرى ان فائق حسن حينما اسس جماعة الرواد، كان يستهدف نقل التجربة الاوربية الى بيئته المحلية، متأثراً بالمثل الذي ضربه الرسامون البولونيون الذين رسموا في العراق.. وان جواد سليم افاق على ضرورة التعبير عن (الهوية الحضارية) في الفن العراقي، مسترشداً بما حققه يحيى الواسطي في القرن الثالث عشر الميلادي، وبما يعكسه الاهتمام بالآثار العراقية القديمة السومرية والبابلية والآشورية من اهتمامات ثقافية وقومية(11).
بيد ان الحديث عن مهمات الجماعة الفنية، واساسيات عملها النظري والتطبيقي الاجرائي، ومدى فاعلية تأثيرها في النشاط التشكيلي العام، يأخذ مداه من خلال مرجعيات الفنان واجتهاداته الفردية واقتراحاته التي يضعها للتعبير عن قيمة المنجز الفكرية والحضارية.. والتي لا تتقاطع تماماً مع مقولات الابداع عامة.. وبالتالي فان هذا الامر يشدنا الى الفكرة التي تؤكد اصرار الفنان العراقي على بحثه المستمر عن مناخات ملائمة، لتطهير نزوعاته الخاصة والعامة.. والعمل على ابلاغ رسالته الفنية، ومعالجة فكرة انبعاث الفن العراقي العتيد، بصياغات متجددة.. الامر الذي يتطلب مقتضيات، ترتبط بوعي الفنان وثقافته من جهة، ونمط تواجده الشخصي في الوسط الاجتماعي والثقافي والانساني من جهة ثانية (ان ظاهرة الجماعة الفنية في تاريخ الفن العراقي الحديث، تقترن منذ بدايتها بالوعي الاجتماعي للفنان، وهي وان بدت كتقليد لما رافق تطور الفن الاوربي في اواخر القرن التاسع عشر من مقتضيات تطلبها انزواء الفنان الى التواجد في مناخات ملائمة لاستمراره في عمله الفني.. الا انها ـ أي الجماعة العراقية ـ كانت تمثل مع ذلك مدى رسوخ (الوعي الاجتماعي) في العمل والفن.. وعلى هذا الاساس اصبح لجماعة الرواد في الاربعينات والخمسينات على السواء مناخها الملائم لها، أي السفرات الى الضواحي او اللقاء في منزل الفنان فائق حسن.. كما اصبح لجماعة بغداد للفن الحديث في الخمسينات ايضاً مناخها الفكري الذي يربطها برباط محكم، وهو شعور اعضائها بانهم يعملون على احياء الطابع التراثي (الحضاري) في الفن التشكيلي (12).
الجماعات الفنية الاولى
ربما كانت مبادرة الفنان حافظ الدروبي عام 1942 في تأسيس مرسم حر ببغداد (13).. اول بادرة تشير الى ظهور فكرة الجماعة الفنية.. حيث تبنى هذا الفنان فكرة تأسيس محترف فني يلتقي فيه نخبة من الفنانين.. الا ان هذه المحاولة لم تدم الا شهوراً قليلة، لتنتهي بالفشل اذ بدت كتقليد لم تتوفر له قابلية الديمومة والتواجد.. الا انه على الرغم من ذلك، لا يمكن التقليل من اهمية المبادرة كنموذج لطموح يحفز العمل تحت روح جماعية. ومهما يكن من امر فقد التفت الفنان العراقي ـ منذ البداية ـ الى العوامل الاساسية، التي يعتقد بانها تساعد على خلق سمة جديدة لحركة فنية مؤثرة.. محاولاً عبر العديد من المبادرات .. تقديم دلالة لا تنفصل عن العمل التاريخي.. بل تعمل على تعميق صلته ـ أي الفنان ـ بالواقع الاجتماعي والثقافي والحضاري، وتفعيل دوره في المحيط الانساني .. لذلك نرى في خمسينات القرن الفائت، ظهور ثلاث جماعات فنية تزعّم كل منها فنان تميز باسلوبه الفني وثقافته وشخصيته الانسانية..(14).
وفي فترة الستينات تضاعف عدد الجماعات الفنية، وتضاعف معه الفعل الفني الذي شخص بشكل جلي اتساع البحث الاجرائي وثوريته، ما اثر بالتالي على ثراء النتاج الفني عامة.. فكانت بحق مرحلة تحول دقيق في استلهام قضايا الظرف، وانبثاق شامل لقدرة الفنان على استيعاب مجالات التقنية والاستعارة والصياغة.. تلك الروافد التي اغنت كثيراً ايقاعات اللوحة ومواضيعها.. هذا الانبعاث في الرؤية الفنية كان حتماً محاولة بحث عن الصلة التي تمكن الفنان من مفرداته المفترضة، باسلوب يحتوي الظرف الجديد ويتخطاه.. وبموازاة هذا الانبعاث ظهرت عشرات الجماعات الفنية التي تباينت في النشاط والتوجه الفكري، فمنها من كانت فاعلة في التقديم والمعالجة، ومنها من كانت قد انشقت عن جماعة اخرى، ومنها من كانت ليس لها سوى الاطار الخارجي والتسمية.. فظهرت جماعة المجددين وجماعة المعاصرين وجماعة حواء وآدم وجماعة المدرسة العراقية الحديثة وجماعة 14 تموز وجماعة الزاوية وجماعة البداية وجماعة الحدث القائم وجماعة الشباب وجماعة تموز وجماعة البصرة وجماعة 13 تموز وجماعة الفن المعاصر. ومع مطلع السبعينات كان للجماعة الفنية بادرة تستلهم المفاهيم، وتضع مراحل لكيان العمل المبدع عبر معايير واسس تحتفظ بقيمتها من خلال الانشداد الى التراث الحضاري، وتحقيق الروح العراقية في العمل، وتفعيل مستوى الوعي الجماهيري.. فظهرت جماعة الاكاديميين وتجمع البعد الواحد وجماعة الواقعية الحديثة وجماعة نينوى للفن الحديث وجماعة الظل وجماعة فناني السليمانية وجماعة باء وجماعة النجف وجماعة الدائرة وجماعة السبعين وجماعة المثلث.. الا ان الفنان شاكر حسن آل سعيد(15) يرى ان ما صرح به الفنان العراقي في الخمسينات والستينات لا يعني بالضرورة نجاحه في ان تكون الجماعة التي مارس من اجلهاحريته، جماعة فنية حقاً.. وكان ذلك مدعاة الى ان تكون بداية سيئة ـ كما يعتقد آل سعيد ـ لما آلت اليه حال الجماعة الفنية .. في حين كان التزام الوعي التزاماً ادبياً في معظم الاحيان والتزاماً تقنياً في اقل الاحيان، وهذا حسب اعتقاد آل سعيد يمثل الشكل العام للرؤية الجماعية في الفن.. اما حقيقة الرؤية الفنية نفسها كطرح صياغي معين وكتأمل فلسفي، فأن آل سعيد يؤكد ان ذلك لم يكن قد ظهر الى حيز الوجود.. ويبين آل سعيد ان ظهور الجماعة الفنية تحدد بأمكانية الفنان في البحث عن التقنية، وانها ـ أي الجماعة الفنية ـ رغبة عارضة مارسها الفنان، وبالتالي فأنها، لم تكن سوى مجموعة من الفنانين لا تنضوي تحت رؤية فنية موحدة..
وحول تضاعف عدد الجماعات الفنية يرى آل سعيد ان هذا لا يعني سوى الاهتمام بالاطار الخارجي لها، كمجال لانجاز المعرض الفني، لان الفنان لم يكن يستطيع لوحده انجاز ذلك.. اما الالتزام النظري سواء كان التزاماً فكرياً ام تقنياً، فأن آل سعيد يؤكد انه لم تكن له اية اهمية بالمرة، وبالتالي نفهم من كل ذلك ان الجماعة الفنية كانت مناسبة عابرة لاشباع رغبات بعض الرسامين لحب الظهور، وهكذا سرعان ما كانت تختفي بعد ان تؤدي وظيفتها هذه، ويدب الخلاف بين صفوف روادها الا ما ندر.
اتجاهات الرؤية للجماعة الفنية
بجدية يرى المتابع الدقيق، ان الموقف من العالم كوعي معاصر، يحث على التوغل في الكشف، ومواصلة العمل.. كون ذلك يمثل صفة ملازمة لاستمرارية الانسان الواعي.. وبذات الوصف انبرى الفنان العراقي، ليضع نفس وادواته ازاء تحديات داخلية وخارجية.. فكان النتاج وقفة معبرة عن ثراء وقدرة المحرك المعرفي والثقافي لديه.. فنجد المشهد التشكيلي العراقي، تظاهرة فنية وفكرية وحضارية ضخمة، بينت وجه المعطيات التي مكنت من بروز ملامح التحول والتطور والانطلاق، لحركة بارزة في النشاط الفني العراقي والعالمي على السواء. ولعل المساهمة الابداعية من خلال التجمع الفني على الرغم من اختلاف اشكال هذه المساهمة، يعني بالتالي اطلالة جريئة وحاسمة لبلوغ موقف معين. وهي ايضاً ـ أي المساهمة ـ عودة دقيقة تصف ديناميكية الفنان العراقي .. وشاهد يثبت حيويته الدائبة، في خلق مساحة تتسع لدوره الانساني والثقافي والحضاري الفاعل (لقد كان للجماعات الفنية، بما تقيم من معارض سنوية يتمثل فيها نمو الحركة واتساعها في العراق، اليد الطولى في هذا التطور السريع.. فهذه الجماعات منذ ان نشأت، يتقارب افرادها هدفاً ان لم يتقاربوا بالضرورة اسلوباً.. ويتناقشون حول اهدافهم واساليبهم نقاشاً حراً يجعل للحركة الفنية محتوى فكرياً واعياً) (16).. وهذا يتضح ان كيان الجماعات الفنية في العراق، قد لازم فكرة تتماثل فيها روح العصر، والقدرة على خلق الموقف الذي يتطلع الى الحرية في التعبير والصياغة المتجددة، والبحث الدائم في الرفد المشروط باجرائية مخلصة للنهج الوطني.. فالجودة التي قدمها الفنان العراقي عبر نتاج سنوات طويلة، هي خلاصة مكابدة مفعمة بالمعنى الجديد لرؤية فذة، تعمق وتزيد من صلته بالواقع والارث، بغض النظر عن الاختلاف في طرائق التمثيل او اجرائية التعبير كمظهر لشكل ابداعي مؤثر.. ففي البيان الثاني لجماعة بغداد للفن الحديث، الذي كُتِبَ عام 1955 نقرأ: (تتألف جماعة بغداد للفن الحديث من رسامين ونحاتين لكل اسلوبه المعين.. ولكنهم يتفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الاسلوب.. فهم يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد.. يحدده ادراكهم وملاحظاتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة واندثرت ثم ازدهرت من جديد.. انهم لا يغفلون عن ارتباطهم الفكري والاسلوبي بالتطور الفني السائد في العالم.. ولكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق اشكال تضفي على الفن العراقي طابعاً خاصة وشخصية متميزة). في حين انتهجت بعض الجماعات الفنية فكرة التجاوز والاكتشاف، من خلال التغيير والخلق والرفض لكل ما هو تقليدي وسائد.. وتبنت فكرة التمرد على اروقة الاتجاه المدروس، من اجل بناء لوحة مستقلة تتخطى المحلية والانغلاق، وتعمل على التركيز والمناداة بفن طليعي يجمع الى جانب اهدافه الانسانية رؤية فنية معبرة.. فنقرأ في بيان جماعة الرؤية الجديدة الذي وقعه في شهر تشرين الاول من عام 1966 كل من: هاشم سمرجي ـ محمد مهر الدين ـ رافع الناصري ـ ضياء العزاوي ـ صالح الجميعي ـ اسماعيل فتاح الترك: (سنظل جيلاً تحمل روحه بكل الحاح تلك التحديات، جاعلاً من فنه لا وسيلة للانغلاق على الوجود الفردي او للانغماس في عالمه الخاص.. وانما رؤية يتجه بها نحو العالم، بلغة ضمنية ينطلق بها الفنان على طريقته الخاصة.. رافضاً بذلك كل فهم ميكانيكي للفن ودوره في المجتمع، والذي يحجز الفنان ضمن حدود الممكن الجاهز داخل حدود العلاقات القائمة.. ان عمليات الانسحاق التي مارستها العلاقات الاجتماعية تجاه الفنان، والتي جعلت منه حاملاً لاقنعة التزييف والمهادنة حينا، وضحية حيناً اخر، لا يمكن ان تمتلك مشروعية وجودها الحالي، وتحول دون قدرتنا على الامتداد بابصارنا الى ما وراء الاشياء). اما العودة الى التراث، واستخلاص فلسفة جديدة تنتفض لتزرع في الفكر نزعة انسانية سامية.. وان المعاني التي تتسربل في اتجاه عام من الممكن ان يتكفل بها دستور حقيقي ثابت وعريق.. يؤاخي بين الاساليب والاتجاهات ويعتمد خطة علمية مدروسة.. يمكن الالتجاء اليه اذا ما كان الاستعداد كافياً وكفيلاً بفهم جلي نابع من التحيز الى تراثنا الحضاري والفني.. فكانت المبادرة الجديدة تضع اسسها الحديثة عبر جماعة الاكاديميين(17) حيث نقرأ في بيانها الذي كتبه الفنان كاظم حيدر في 18ـ 5 ـ 1971، كمقدمة لدليل معرض الاكاديميين الاول: (ان الاكاديمية شكل يحوي كل الاساليب، ولا يحمل فلسفة معينة في جوهره، بل هي اناء لكل الفلسفات.. وميزة الشكل الاكاديمي ان ينفذ بدراسة مسبقة مقننة بعيدة عن الارتجال والعفوية، ذو خطة علمية مرسومة.. صحيح ان المعاني التي تحملها الاكاديمية تغيرت واختلفت على مر العصور، كما تغيرت معاني بعض المدارس الفنية العريقة في القدم.. فالبسيط في الموضوع انها ابتدأت عام 387 قبل الميلاد، لتدريس التعاليم الفلسفية عند بلوتو، ثم تطورت الى اكاديميات علمية وفنية واجتماعية وحربية.. نحن الآن نحاول ان نجدد هذا المفهوم بطريقة عراقية خاصة نابعة من تراثنا الحضاري والفني الذي يحمل اعلى مراحل الاسلوب الاكاديمي ومستمدة من تربة هذا الوطن، وبفكر عالمي حديث).
وفي الجانب الآخر تنبثق الدعوة الى ان ادراك الواقع الموضوعي من خلال المعنى الشعبي وعقيدته الفكرية، هو من مسؤوليات الفنان الناضج والمسلح بارائه التقدمية، واحساسه المرتبط بقضايا مجتمعه الذي يعيش فيه.. وان للفن دوراً اجتماعياً له اثره الفعال في التربية والنضال.. وهذا لا يتم الا من خلال ادراك ما تتحسسه الجماهير في التعبير عن واقعها المعاصر.. بهذه الرؤية تظهر جماعة الواقعية الحديثة (18)، التي نقرأ في بيانها (نحن فنانون واقعيون لا نقف عند الجزئيات السطحية المحيطة بنا، وانما نتجاوز ذلك الى الروح العامة في المجتمع.. وهذا عندنا هو العمل الفلسفي الذي لا بد ان يكون من اهم مقومات التكوين في جميع نتاجاتنا الفنية.. ان هذه الواقعية الحديثة اهم ما يتجسد بها هو المعنى الانساني بافكاره التقدمية من اجل اسعاد الانسان.. ان واقعيتنا الحديثة ستكون المعنى المعياري العام لادراك القيم الانسانية من خلال العاطفية الغنائية لحياة البشر الاجتماعية.. وكذلك نرى ان القوى الانفعالية في التأثير على المشاهد من الصعوبة التوصل اليها عن طريق محاكاة الواقع بشكله المألوف، فهناك يظهر متسع رحب للتخييل الابداعي للرسام، وهذا التخيل لن يدوم بدون قاعدته المتمثلة بالحياة نفسها.. فالبدعة لا تقوم الا في حالة احساسها بالاشياء غير المرئية، ولكن بنفس الوقت لاجل ان تبصر ذلك بشكل جيد ولاجل ان يكون ابداع حقيقي يحس بكل ما يحيط بالفنان.. ففي نظرنا التخيل الابداعي الحر، يحرر الواقعية من تلك الاطارات العتيقة التي توقف تطورها.. فالواقعية لا يمكن ان تكون لا شيء.. فهي كمادة ابداعية موضعها في حالة حركة دائمة).
*خلاصــــــــــــة
لقد ادرك الفنانون الجماعيون، انهم قد تبنوا الخصوصية عبر انجازاتهم الابداعية كجهد فردي.. وبالاتجاه المقابل كرس هذا الفنان، الجهد ذاته لتحقيق خصوصية فعله الابداعي عبر تجمع فني، تخدمه ضوابط وانظمة تقنية او فكرية.. دون ان يتنبه الى وحدة الاسلوب وتكامل حلقاته ضمن حدود التجمع الذي يمثله.. الا ان الذي يبقى هو ان الجماعة الفنية العراقية، كانت قاعدة حية تشكل من خلالها ايضاح نظري، لموجبات المنجز التشكيلي العراقي في مراحل متباينة.. كما علينا ان لا ننسى ان وفرة الجماعات الفنية كانت وراء تذليل اقامة المعارض الفنية الفردية والجماعية .. يتبعه وضوح الرؤية الفنية، وبالتالي انماء كيان الفنان الفكري والثقافي والاعلامي. وهكذا نعرف في الاخير، ان اغلب الجماعات الفنية في العراق قد توجهت الى التمسك بالجانب التنظيري ضمن تشكيلها الجماعي، دون ان يكون هناك هاجس لاسلوب عمل موحد.. ونرى ان ابعاد الواقع الاجتماعي، وتأثيرات الدراسة خارج العراق، كانت وراء تشكّل الجماعات الاولى في تاريخ التشكيل العراقي.. وبعدها كان من الطبيعي ان يحدث نضوج سريع في دستور الجماعة الفنية، بحكم ثراء المنجز التشكيلي في العراق واتساع رقعته الابداعية، وتقلبات الواقع السياسي والاجتماعي والانساني، وانعكاساته على الاتجاه التفكيري لعموم الفئة المبدعة وفي مقدمتها الفنان التشكيلي.
ونبقى ازاء الفهم الصريح الذي تحقق فعلاً بحكم وجود هذه الجماعات في نسغ النشاط الفني في العراق(19).. مما انعكس ايجاباً على النجاز الجبار الذي بادر اليه الفنان، وتخطى عبره اخفاقات ومصاعب كثيرة، الامر الذي دفع الى توسع مهمات عمل الفنان ومسؤولياته.. دون ان نتجاهل في النهاية، ان بعض الجماعات الفنية قد ولدت باهتمام شكلي، دون ان تنطوي على فهم فكري لدور الفنان ضمن هذا التجمع، مما اسرع في اخفاقها وانهيارها دون رجعة.. وفي الجانب الآخر يبقى الفنان على الرغم ذلك، متطلعاً دائماً الى بلوغ ما تبناه واسس له، متجاوزاً جميع الملابسات والدعوات والمكابدة، ونحن لا نخطئ اذا ما اكدنا ان مكونات الفنان العراقي ومصادره، كانت النبع الدافع الذي تكاملت عبره الاستفادة التي انبرى بها هذا الفنان، وابتدع ثيمة ثرية في طراز دقيق وشروع منتفض دائماً في حركة فنية مثابرة ومتجددة.
*الهوامــــــــــــــش
1-انظر كتاب الفن العراقي المعاصر ـ لمؤلفه نزار سليم. 2-الفن المعاصر في العراق ـ جبرا ابراهيم جبرا ـ ص40. \3-انظر كتاب المصادر الاساسية للفنان التشكيلي المعاصر في العراق ـ لمؤلفه عادل كامل. 4-من البيان الاول لجماعة بغداد للفن الحديث عام 1951.. الذي قرأ في حفلة افتتاح المعرض الاول للجماعة في قاعة متحف الازياء القديمة في منطقة الباب الشرقي ببغداد. 5-البيانات الفنية في العراق ـ شاكر حسن آل سعيد ـ ص7. 6-المصدر السابق. 7-تأسست جماعة الرواد بزعامة الفنان فائق حسن، والتي كانت قبل ذلك وبالتحديد منذ عام1939 تعقد اجتماعاتها في مرسم الفنان فائق.. والتي كانت هذه الاجتماعات تشتمل على سماع الموسيقى وعلى سفرات الى ضواحي بغداد لرسم المنظر الطبيعي.. وقد كانت هذه الجماعة تضم نخبة من الرسامين ـ محترفين وهواة ـ منهم الطبيب والمهندس والمدرس.. وفي عام 1950 اقترح السيد يوسف عبد القادر اسم الرواد لهذه الجماعة، تحريفاً لمصطلح (S.P) وهما الحرفان الاولان لعبارة (الجماعة البدائية) باللغة الانكليزية.. ولم تطرح الرواد اي بيان .. ولكنها كانت تستهدف الاسلوب الحديث عموماً في رسم المنظر الطبيعي. 8-في عام 1951 اسس الفنان جواد سليم جماعة بغداد للفن الحديث مع لفيف من اصدقائه وطلابه من الفنانين: جبرا ابراهيم جبرا ـ لورنا سليم ـ شاكر حسن آل سعيد ـ فاضل عباس ـ قحطان عبد الله.. وغيرهم. 9-اسماعيل الشيخلي ـ مجلة المثقف العربي ص73 العدد 4 سنة 1971.. انظر كذلك كتاب البيانات الفنية في العراق. 10-انظر: فنانون عراقيون ـ حافظ الدروبي ـ لمؤلفه شاكر حسن آل سعيد.. 11-المصدر السابق. 12-فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق ـ شاكر حسن آل سعيد ـ الجزء الثاني ص45. 13-اسس الفنان حافظ الدروبي مرسمه الحر، الذي شغل في حينه قاعة اليأس بحر لتعليم الرقص، قرب حدائق الملك غازي (حديقة الامة) حالياً في منطقة الباب الشرقي ببغداد.. بمساعدة الفنان جواد سليم، وغايتهما اللقاء الفني وتعليم فن الرسم.. واستمرت هذه التجربة مدة ثلاثة شهور. 14-ظهرت في الخمسينيات فضلاً عن الجماعات الثلاث المذكورة.. جماعات فنية لم يكن لها من النشاط الفني ما يوثق عملها تاريخيا.. فما كان منها سوى الاسم فقط ومن بينها: جماعة خريجي المعهد الفني ـ 1956.. وجماعة فناني كركوك 1958. 15-البيانات الفنية.. مصدر سابق. 16-الفن المعاصر في العراق ـ جبرا ابراهيم جبرا. 17-تضمنت هذه الجماعة كل من : كاظم حيدر ـ نعمان هادي ـ صلاح جياد ـ فيصل لعيبي ـ وليد شيت. 18-الواقعية الحديثة جماعة فنية كانت تضم: الدكتور شمس الدين فارس ـ الدكتور عبد الرزاق علي جواد ـ محمد عارف ـ ابراهيم الكمالي. 19-لم يبق من الجماعات الفنية اليوم في واقع الحركة التشكيلية في العراق شيئاً يذكر.. ولذلك اسبابه الكثيرة.. اذ لم يتسع المجال هنا للتصدي لها ودراستها.. وكان آخر الجماعات الفنية هي جماعة الاربعة التي ظهرت في اوائل الثمانينات وكانت تضم: فاخر محمد ـ عاصم عبد الامير ـ حسن عبود ـ محمد صبري .. حيث اختفت هي الاخرى بعد ان قدمت معرضها السابع الذي لم يشهد تداولاً مؤثراً في حينه.
|