في كتابه " المكان، الزمان، والعمارة"؛ نصه الذي اعتبر دوماً، من النصوص الكلاسيكية التى تعاطت مع منجز عمارة الحداثة، يشير مؤلفه الناقد المعماري " سيغفريد غيديون" (1888-1968) Siegfried Giedion الى ظهور" الجيل الثالث" في مسار ذلك الحدث الابداعي الذي بدأ في التشكـّل بالعشرينيات من القرن الماضي وأعني به " عمارة الحداثة". ومقراً بوجود فوارق مهنية بين تلك الاجيال الصانعة لذلك الحدث، فإن غيديون يشير في الوقت ذاته، الى حضور"سمة اساسية اكتنفت مسار الحركة الحداثية المعمارية، وهي سمة التعاقب، التتابع او الاستخلاف بين تلك الاجيال. والتى، وفقاً لرؤيته كفلت استمرارية تطور العمارة". ومع هذا، فإن ناقد عمارة الحداثة المعروف يميز اختلافات جوهرية اتسم بها "الجيل الثالث" عن سابقيه، اختلافات نابعة أساسا من تداعيات التطور الحاصل في تكنولوجيا البناء وتغيير الذائقة الجمالية وظهور قضايا مهنية جديدة تطلبت حلولا معمارية غير مسبوقة. ومن ضمن المفاهيم التى تناولها " الجيل الثالث" بالتقصي والبحث والممارسة، كما رصدها الناقد، الاهتمام المكثف بنماذج العمارة التاريخية، ورؤية ذلك الاهتمام ليس بكونه امراً شكلياً، بقدر ما "كان ينطوي على ادراك عميق لكنه العلاقات الجوانية الرابطة لما بين العصور؛ والتى امن حضورها في الخطاب المهني، التطور المستمر الذي صاحب مسار العمارة".
الحداثة المعمارية في العراق وما يشير اليه "سيغفريد غيديون" من افكار في مستواها العالمي، يمكن بنجاح اسقاط مفاهيمها على الحالة الاقليمية او المحلية. واقصد بالاخيرة، طبعا، الحالة العراقية. بمعنى ان مسار حركة التحديث المعمارية العراقية، التى تأسست بمواكبة زمنية، مع بدء " اعلان" مبادئ الحداثة المعمارية، والتى باتت صيرورتها في وقت لاحق تمثيلاً لاشتغال موازٍ مع ما يمكن ان نسميه مقاربات منجز عمارة الحداثة العالمي، افرزت هي الاخرى " جيلها الثالث"؛ الجيل الذي عمل واجتهد تصميمياً ضمن اشتراطات المرحلة الزمنية وظروفها الموضوعية والذاتية معاً. وهذا كله سيمهد السبيل لقراءة جادة لمسار تطور الحداثة بالعراق، ويمنحنا إمكانية إجراء تقييم موضوعي له، عبر الاحساس بحضور عنصرالمجايلة وتحديد فتراتها المرحلية، من دون ان يعني ذلك رسم حدود قسرية تفصل بين اعمال تلك الاجيال. وبما ان الحداثة المعمارية نشأت عندنا، في العراق، كما اسلفنا، في العشرينيات، بتزامن طريف مع ظهور الحداثة المعمارية العالمية؛ فإن فترة عمل "الجيل الثالث" الذي يتكلم عنه "غيديون"، انحصرت زمنياً بين منتصف الخمسينيات وبدء الستينيات ؛ وهي ذاتها الفترة التى تشكل بها عندنا ذلك الجيل المهني، الذي عوّل المسار التطوري للعمارة المحلية على منجزه امالا عريضة، لكن تلك الآمال ظلت، مع الاسف، مجرد آمالاً وتمنيات بعيدة عن التحقيق، وبالتالي لم يؤثر انتاج ذلك الجيل (المحدد المعالم والمتماثل في مرجعياته التصميمية) تأثيراً عميقاً في الممارسة المعمارية المحلية. وإذ اتسم منجز الجيل الثالث في مستواه العالمي على بلوغ تخوم ابداعية لم تكن معروفة او متداولة كثيرا في الخطاب المعماري يومذاك، كما يذكرّ غيديون بعضاَ منها، على سبيل المثال لا الحصر؛ فان ذلك المنجز قد تحقق في اجواء ثقافية معاضدة للابداع، وبوجود فرص وإمكانات يسر حضورهما حُسن سير العملية الابداعية اياها. في حين كتُب على ممثلي "الجيل الثالث" العراقي ان يعملوا وينتجوا في "فضاء" احداث متقلبة جذرياً في مرجعياتها القيمية، وفي ظروف مستجدة ودائما طارئة، معظمها غير ملائمة اطلاقاً لتطلعاتهم وعملهم. وهذه الاحداث بدأتها ثورة تموز 1958، وما افرزته من نظام الحكم الفردي وما صاحبه من هشاشة استراتيجيات منطلقاته العمرانية المتسمة على غموض الاهداف في احيان، وغيابها التام في احيان آخرى.
محنة الجيل الثالث لكن ما احدثه انقلابيو 8 شباط 1963 من " اجواء" حافلة بالرعب والقسوة غير المسبوقة، فاق كل ما مرّ سابقاً من "احداث" مدمرة على العراق والعراقيين، عاملة عملها التخريبي في وأد وإلغاء اية فرصة محتملة للابداع الحقيقي، ومبعثرة، في الوقت نفسه، آمال " الجيل الثالث" في محاولته لجهة تحقيق اهداف مهنية جادة. ذلك لان القسوة المنفلتة والفظاعات التى اوقعت الفزع بالنفوس التى تبنى سياستها "الشباطيون" وتم تكريس " ثقافتها" بقوة السلاح، طالت الجميع، وبالطبع طالت المعماريين ولاسيما "الجيل الثالث" منهم، كثر منهم وجد نفسه امام محن الاعتقال والتشريد والطرد العشوائي من وظائفهم او في احسن الاحوال تضييق الخناق على البقية الباقية منهم. وما ارساه "الشباطيون" من ممارسات تعسفية وقسوة مفرطة، افضت ليس فقط الى ترويع المثقفين وتكميم افواههم، وانما كرست "بمنظومتها" الجديدة قيماً منحرفة لم تراعِ كثير أهمية للنزاهة او الخبرة او الكفاءة او الاختصاص لدى الآخرين. ان "دورهم" في هذا المعنى (مع ممارسات "ورثتهم" في انقلاب سنة 1968)، لا يختلف كثيرا عن دور محاكم التفتيش الكنسية بالعصور الوسطى؛ عندما "زرعت" الاخيرة الخوف والذعر لدى ممثلي الطبقة المتنورة الايطالية، وارغمتهم عن طريق الارهاب والوعيد،على الصمت ونبذ الافكار الطليعية؛ ما جعل من ايطاليا المرعوبة‘ وهي المولدة والحاضنة الرئيسية لافكار عصر النهضة،ان تعيش قروناً عديدة في قطيعة تامة مع تلك الافكار التى ابتدعتها هي نفسها، وان " تسكن" في ظلام ابستيمولوجي دامس ومريض، لم تبرؤ منه الا مؤخراً. لكننا لن نسترسل كثيرا هنا في مثل هذا الحديث، لان مكانه دراسات مطولة وربما كتب، نعتقد ان اوآنها قد آن، بعد نصف قرن من ذلك الحدث الذي افضى، من دون، ربما، قصد، الى ما افضى لعقود من سنين عجاف غارقة في ظلاميتها وهولها، وما نجم عنها من ارتداد مشين، نرى في مثل كتاب المعمار رفعة الجادرجي " جدار بين ظلمتين" صرخة مدوية في ذلك الاتجاه. تبدو اسماء معماريين مثل ابراهيم علاوي وعصام غيدان وأنيس عجينة وطارق الجدة وغسان رؤوف، وفؤاد عثمان وغيرهم كثر، تبدو غريبة، الآن، على وقع مسامع المثقفيين العراقيين وعلى مسامع المعماريين منهم ايضاً. فماكنة التغييب، "اشتغلت" بكفاءة ما بعدها كفاءة في إخفاء مجموعة تلك الاسماء التى شكلت قسماً من جسم الجيل الثالث، واقصتهم عن الذاكرة المعمارية العراقية. انه غياب ظالم لجيل كامل، كان يمكن له ان يثري المشهد المعماري المحلي بإنجازات حقيقية، انجازات ربما غيرت كثيراً من معالم البيئة المبنية المحلية (وحتى الاقليمية) المتعطشة للتجديد، والتواقة لتنفيذ طروحاتهم وممارساتهم المهنية عالية النوعية. بالطبع ثمة اسماء معمارية اخرى امثال عدنان زكي امين وعبد الستار عياش وهنري زفوبودا ودريد الياور وعادل صالح زكي وصلاح الاحمدي وباسل جهاد حسن وجورج انطوان جورج وعبد السلام فرمان وكمال تاج الدين وغيرهم من الاسماء التى شكلت مع تلك الاسماء المذكورة اعلاه ما يعرف بالجيل الثالث، قسمُ منهم عمل لفترة، وآخر توارى سريعاً من المشهد المعماري تحت ضغط ظروف معقدة ومتنوعة، اتسمت بها المرحلة التى نتكلم عنها. لكن اعمال "معاذ الالوسي"(1938)، وهو احد معماريي الجيل الثالث، كانت مؤثرة وحاضرة بقوة في الممارسة المعمارية المحلية.. والاقليمية ايضاً؛ ومنجزه المعماري المتنوع والمستمر، هو الذي يضفي أهمية خاصة على عمارة ذلك الجيل، ما يمنح دراستنا الحالية المكرسة "لسبعينيته" التى تتوافق هذه السنة (2008)، بعداً مضافاً يحمل دلالة التذكير باؤلئك الذين غيبوا على نحو قاسٍ وظالم؛ فعمارته في معنى ما، هي حضور في وجه الغياب. ومن هنا، ايضا، مشروعية الاحتفاء به وبعمارته. وقبل الانتقال الى صلب الموضوع الذي اتطلع الى تناوله، اود ان احدد معنى مصطلح "الجيل الثالث" الذي اتعاطى معه. فهذا الجيل الذي تأهل معمارياً ومارس المهنة في فترة زمنية محددة، هو الجيل الذي خلف جيلاً سابقاً من المعماريين الذين تخرجوا في الاربعينيات وبدء الخمسينيات، والذين اعتبرهم ايضا خلفاً لجيل اول تأهلوا معماريا في الثلاثينيات، أولئك الذين واكبوا فترة عمل المعماريين الانكليز الذين عهد لهم تدبير وتنفيذ المشاريع العمرانية في بدء نشوء الدولة العراقية الحديثة. ومصطلح معماريي " الجيل الثالث" يتعين ادراكه كخيمة فضفاضة انضوى تحتها معماريون عديدون. مثل جميع تلك الاسماء التى ذكرت تواً (وقد تكون جميعها لم تذكر، بسبب نقص المعلومات.. والنسيان ايضا!)، لكن ثمة اسماء لمعماريين آخرين ليس بالمستطاع " نسبها" الى الجيل الثاني، كما ليس بالامكان" عدها" من الجيل الثالث، انها تقع عند تخوم جيلين، مثل: هشام منير وناصر الاسدي ومهدي الحسني وفاضل لازار ومحمود حمندي وغيرهم، تماما مثل بعض الاسماء الأخرى التي تقع عند نهايات فترة الجيل الثالث وليس منه مثل: هيثم خورشيد سعيد وياسر حكمت عبد المجيد وعصام السعيد وعباد الراضي وطالب الطالب ونزار عثمان وغيرهم. ويظل تشابه العامل الزمني وتماثل الظروف التى عملوا فيها، هما اللذين يحددان مصطلح معماريي " الجيل الثالث"، هم الذين مارسوا عملهم وفق مقاربات مهنية متقاربة، وتلقوا جميعهم تعليمهم المعماري خارج العراق، ما يمنح تلك التسمية نوعا من المصداقية والوثوقية. تنبغي الاشارة إلى أن خصوصية موقع المعمار ضمن "خيمات" الاجيال المذكورة، لا يعني بأي حال من الاحوال اكتساب المعمار بصورة آلية نوعا من التقييم المهني. ذلك لان اسلوب "التحقيبات" الجيلية، كما هو متعارف عليه نقدياً، ماهو الا اداة لالية تستخدم بغية التركيز على قضية فكرية محددة، ولاجل مزيد من التحليل والاضاءة لها، وليس غير.
البدايات ولد معاذ الآلوسي في 24 تشرين الثاني 1938 ببغداد في احد احيائها القديمة التاريخية، وبعد ان درس لسنة واحدة في كلية الزراعة بجامعة بغداد، انضم الى بعثة دراسية لدراسة العمارة في جامعة الشرق الاوسط بأنقرة في تركيا، التى كانت برامجها التدريسية وقت ذاك مأخوذة، كما هو حال الثقافة التركية في الخمسينيات بالنموذج الامريكي الواعد وبنجاحاته في شتى الميادين بضمنها العمارة، وتحديداً عمارة الحداثة، التى انتقل مركز ثقلها الى الجهة الاخرى من الاطلنطي، تاركة مكان " اختراعها" الاوروبي نهباً للحروب والخراب. وحالما انهى تعليمه المعماري عام 1961 قفل "معاذ" راجعاً الى بغداد، بعد زيارات قصيرة الى ايطاليا والمانيا؛ لينضم وهو المتعين حديثا في دائرة الاسكان وبتوصية خاصة من رفعة الجادرجي (1926) الى مكتب "الاستشاري العراقي"، الذي كان الجادرجي احد مؤسسيه. ومن عمله في المؤسسات الحكومية ونشاطه التصميمي في المكتب الاستشاري استقى المعمار الشاب خبرته المهنية الواقعية وتعلم منهما "اسرار" المهنة وطرائق التصميم ضمن مقاربات معمارية اجتهد مع أخرين في صياغتها. فضلا على ادراكه لخصائص المواد المحلية واسلوب البناء وطريقة التعامل اليومي مع المنفذين. وسيقول لاحقاً عن " جامعاته" المهنية بانه مدين لهما باكتساب الخبرة المعمارية. وعن عمله في دوائر الدولة بانها فترة مفيدة جدا، وضرورية جدا للمعمار ذلك لانها تمنحه ".. التعرف على الانظمة والاعراف الهندسية وتسلسل العلاقات في دوائر الدولة وطرق ادارة المشاريع وتمويلها.." والاهم "..هاجس المكان الذي لم اكن ملماً به قبل الدراسة المعمارية". اشترك معاذ في دورات دراسية في " الجمعية المعمارية" في المملكة المتحدة(1963-64) متخصصة في الابنية الدراسية بالمناطق الاستوائية، وبعد سنين عديدة (1961-70) قضاها في مؤسسات وزارة الاشغال:الاسكان والمباني،استقال أخيراً في نيسان 1970 ليتفرغ بالكامل للعمل في المكتب الاستشاري العراقي، الذي سيتركه ايضا بعد نحو اربع سنوات (مايس 1974)، وليؤسس لنفسه مع آخرين مكتب " الدراسات الفنية" في بيروت/لبنان، وبعد حله ينشأ مكتب " الآلوسي ومشاركوه" في قبرص. صمم معاذ الآلوسي مباني عديدة ذات وظائف متنوعة، وبمقاسات مختلفة، كما ان "جغرافية" مواقع مبانيه شاسعة جداً؛ فهو وان بدء حياته المهنية في وطنه العراق وصمم له الكثير(والاجمل)، لكنه ايضاً اشتغل للخليج ولافريقيا وبلاد الارمن إضافة الى قبرص ولبنان، ولايزال ينشط ويصمم في مقر إقامته القبرصية الحالية. لا تسعى هذه الدراسة لان تكون توثيقاً "لمؤلفات" المعمار الكاملة، فهذا ليس هدفها، انها تنشد قراءة نقدية جديدة، يكمن "جديدها" في تعاطيها مع آليات النقد الحداثي، القادر على إضاءة "النص" الآلوسي المعماري المتنوع والمميز..ايضاً، وتبيان اهميتة التصميمية عبر التركيز على نماذج مصطفاة، نزعم بأنها ذات أهمية تصميمة خاصة في منجز المعمار، ومنجز العمارة العراقية والاقليمية على وجه العموم.
|