... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  مقالات فنيه

   
اللون البريء في العمارة الإسلامية والنقلة الحضارية والاقتباس بين سامراء و فاس

د. علي ثويني

تاريخ النشر       27/03/2008 06:00 AM


الجص ، والجبس ، والبياض أو الجير .. كلمات وردت على لسان أهل حرفة البناء وتوسع نطاق العمل بها في كل البيئات العمارية ، و أصبح ذكرها يوحي بناصع اللون البريء ولطيف الزخرف وغنى المعالجات الفنية.والجص خامة طبيعية وافرة في جل البيئات ، وآصرتها بالعمارة أملته ماهيتها اللزجة حينما وظفت في لصق خامات ومداميك البناء،وجفافها السريع في اقتضاب الوقت ، وتشكيليتها وطراوتها في إضفاء مسطحات ملس يمكن رسم الجداريات (فريسكو) عليها ، أو النقش بسنيع الزخرف.وقد آثرت تلك الخامة أن تحاكي الحجر و الخشب في نقوشها ،بعدما شحت هاتان الخامتان في البيئة العراقية الولادة لها .وأمسى تداول الجص في تلك المنظومات الفنية والبنائية فذلكة فحواها ارتقاء الخامات المهينة الى نفيس ومبهر الأعمال الثمينة. ومورس في فضاءات العَمارة الطينية، وفي تلك الحبكة الإحلالية والتوظيف الحاذق مكث جوهر ودفق الابتكار العماري .

والجص منتج طبيعي ورد تعريفه عند إخوان الصفا:( الجص هو تراب رملي يقبل الأمطار ثم ينعقد ويصير جصاً).وحقيقة الجص الكيمياوية هي مركب كبريتات الكالسيوم المائية الذي يطحن ويسخن الى 150-170 درجة مئوية للتخلص من كميات الماء التي يحتويها فينتج من ذلك المصيص . وإذا خلط هذا الجص الأسمر مع الماء فإن درجة حرارته ترتفع بسرعة ويتماسك بعد فترة وجيزة(الشك) وقد يطول هذا الوقت بإضافة بعض الأملاح كما هو الحال في استعمال ملح الشب لدى الحرفيين المغاربة.
وأورد البلاذري ذكره: (وبنى خالد حوانيت في الكوفة وجعل سقوفها آزاجا مسقوفة بالآجر و الجص) ، ووصفها الجواليقي (ليس بعربي صحيح) ، وفي الصحاح والقاموس (معرب) ، وفي الجمهرة(ليس بعربي صحيح) أو (فارسي معرب)، ويورد السيوطي الكلمات الدخيلة على العربية ذاكرا : (لا أحسب هذا الذي يسمى جَِصّاً عربياً صحيحاً).والكلمة وردت من لغات الشرق القديم (يدعوها الغربيون السامية) ولاسيما الآرامية ، بصيغةGeso) جصو). وهي مشتقة من الفعل geses ومعناه "جصص"، ومتخذه وبياعه الجصاص gasoso)جصاصو(. و جيار gairo حجر الكلس ، والجير والجص والفعل aguir كلس، أو طلى بالكلس. وكلمة (شيد) في العربية ترد بالآرامية وقبلها الأكدية بصيغة Sido ومعناها ماطلي به الحائط بالجص ، حتى أن قوله" تشاد" تعني: تطلى، وكل شيء طلي به البناء من جص أو جيار ، فهو المشيد. و كلمة أتون تعني أخدود الجيار ونحوه وهو موقد النار الذي يطبخ به الآجر، ويمكن أن تكون من مصدر أرامي atouno ،و تقابل كلمة توتق وداشوزن الفارسية المستعملة في المشرق الإسلامي.
وأستعمل الجص في البناء منذ القدم ،كما تشهد عليه الآثار العراقية الأولى،فاستعمل في بيوت مدينة أور في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد على نطاق واسع كمونة للصق قوالب الطوب(Adope) بعد أن كان قد أستعمل قبل ذلك الطين المخلوط بالتبن للمواقع الجافة أو القطران بالمواقع الرطبة. وثمة خلط بالإصطلاح يرد لدى أهل العراق في كلمة(جير- قير) وتعني القطران أو الجص سوية. وورد في العمارة الفرعونية متأخرا، وبالخصوص القبطية على نطاق واسع بالرغم من توفر الحجر الذي يتمتع بجدوى وديمومة وجاذبية اكبر في المعالجات الفنية.وهكذا فأن عملية (الشك) أو الجفاف السريع للجص ، جعله وصفة سحرية في لصق قطع البناء الصغيرة وتراكبها ،ولاسيما في عملية التسقيف الذي لا يستعمل فيه القالب المكرس لشكله الإنسيابي النهائي.
وأقدم المعالجات الفنية للجص في التاريخ وجدت في قصور مدينتي الوركاء(أوروك) وأور وتعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. وقد أستعمل الجص في تثبيت قطع الفسيفساء المخروطية المغطية لحيطان المعبد البيضوي في الوركاء . ويعد ذلك ريادة عنصر الفسيفساء الذي تصاعد تداوله في الحقب المتأخرة تاريخيا كالرومانية والبيزنطية ثم الإسلامية. وثمة أمثلة متأخرة لأستعمال الجص في الجداريات التي تعود الى القرن الثالث عشر قبل الميلاد ونجده في شرفة قصركارتوكوتلي نينورتا الآشوري وسمت عليه أربعة ألوان الأبيض والأسود والأحمر والأزرق. وثمة مثال في مدينة آشور من القرن الأول الميلادي وقوامها نقوش هندسية ونباتية تتخلها بعض رسوم الحيوانات، تكون الأقرب إلى الممارسة التي وجدت بالعمارة الإسلامية.
وفي أزمنة الإسلام يعود أقدمها الى الحقبة الأموية. حيث نجد طلاءات جصية على جدران واجهات قصر الحير الغربي بنقوش نافرة ، تكتنف أقدم الأمثلة للعناصر الزخرفية الشامية التي بدأت بها مسيرة المنظومة الزخرفية الإسلامية ، وكذلك الحال ما عثر عليه في قصر منطقة الشعيبة في البصرة،التي يعود إلى بواكير تلك الحقبة ، والزخارف هنا تحاكي ما عثر عليه في بادية الشام . و شاع استعمال الجص في العمارة العباسية على نطاق واسع،ووردت في الوصف المدون عن بغداد وقصورها، لكن خرابها حرمنا منها.ويمكن أن يكون نزيز وملوحة أرض العراق سببا في اختفاء الكثير من آثار الجص. و نجد خير الأمثلة عليها ماكثة في عمارة مدينة سامراء التي بنيت عام(248هـ-836م).ويعود الفضل في مكوث ذلك الأثر إلى هجرها بعد 57 عاما من تأسيسها، ثم درسها وتراكم الطمى والمدر عليها.وهكذا مكث الكثير من معالمها ولاسيما معالجات الجص في ثناياها.وكان تداولها قد عم في تزيين القصور ،لما أوحاه من سمات الرفاه و الترف .و غشيت الجدران في العمائر الدينية والدنيوية على حد سواء ،وأختلفت المعالجات من دار لأخرى وحتى بين حجرة وأخرى.مما يدلنا على أنها عرف فني موروث أختص به العراقيون وأخترق العمارة والفنون الإسلامية من ضمن مقتبسات شتى .ونجد وصفا للمسجد الجامع الذي يكتنف المنارة الملوية ،قد غشي بجزيل زخرف الجص ومبهج ألوان الكربلائي(القاشاني-الزليج). وهذا التراتب العماري Architecture Order في المعالجات ، مكث في العمارة الأندلسية المغربية حتى اليوم،ونجده في ردهات قصر الحمراء ، فحواه وزرة من الخزف الكربلائي الملون بإرتفاع(120-180سم)، تليه نقوش الجص الأبيض أو الملون ،ثم يعلوه السقف المجلد بالخشب والمعالج بالحفر واللون والعجمي.
وخلال تنقيبات العام 1936م للألماني (هرزفيلد) ثم الفرق العراقية بعد الحرب العالمية الثانية، تم اكتشاف ثلاثة أنواع من الزخارف الجصيةstucco على شكل وزرات بارتفاع (90-120سم) بصيغة طبيعية أو ملونة. و كانت قد تطورت خلال حقبة بناء المدينة ، واعتبرت منذ ذلك الحين نقلة كبيرة ثبتت تباعا المنظومة التقنية والفنية الزخرفية بالجص التي واكبت تطور العمارة الإسلامية. وقسمت تلك الزخارف إلى ثلاثة طرز بحسب أصول عناصرها الزخرفية والأسلوب وطرق التنفيذ. فالنوع الأول موجود في موقع الحويصلات الذي يمكن أن يكون (قصر الجص) نفسه، وفيها محاكاة حرفية للأعراف الجصية التقليدية في الحيرة والمدن العراقية القديمة إلى حد بعيد وتعتمد على الأشكال النباتية التجسيدية لا التجريدية، ضمن أطر أو أشرطة هندسية ناظمة. أما النوع الثاني فقد جاء تطورا تقنيا للأول،ما عدا أن تقنيات أملتها الرغبة في سرعة الإنجاز ووسع المنتج. وهذا الطراز بسيط،و قليل التفاصيل محور وتجريدي وذو مسحة هندسية ناظمة، مع مواصفات التناسق البديع الموزون للوحدات الزخرفية والإنسيابية والتناظر والتماثل والتقابل لتلك العناصر.
وظهر تباعا الطراز الثالث ابتداءا من منتصف عصر سامراء الذي تميز بإحلال المراوح النخيلية بدلا من موضوعات العنب القديمة، وكأنه قد رام إحياء أشكال عراقية قديمة من الفن الآشوري والبابلي.ويمكن أن يكون هذا الطراز قد نقل فنون الجص إلى تطورها اللاحق في الفنون الإسلامية وذلك أن الزخارف لم تحصر ضمن إطارات أو تأخذ شكل حشوات، بل جاءت متناوبة بشكل لانهائي، ويختلف الباحثون في طريقة إنجازها فبعضهم يظن أنها نفذت بطريقة القوالب المصنوعة من الخشب أو الطين المفخور، لأغراض السرعة ،كما هي الطرق الأوروبية التي شاعت في القرون القليلة الماضية.
ومن التطورات التي طرأت على الأسلوب هنا هو القطع المائل أو المشطوف Bevelled cut، الذي وضع حدا لأسلوب الحفر الغائر للعناصر الزخرفية كما في الطرازين الأول والثاني. وعادة ما تلتقي العناصر الزخرفية هنا بخطوط منبعجة إلى الداخل مما يضفي عليها مسحة القطع المائل، وجوهره ملء الفراغ الكلي للسطوح دون ترك خلفيات مميزة ، أي أن العناصر الزخرفية أصبحت تلتقي بعضها ببعض بخطوط فاصلة ،وهو ما يتداوله المعلمون المغاربة اليوم.
أن الموضوعات الزخرفية التي تجسدت في الجص تجسدت كذلك في خامات أخرى، إذ نجد عين التفريغات(الموتيف) في خشب منبر مسجد القيروان، الذي كان قد أهداه هارون الرشيد للمسجد ،ونقش في العراق على نفس منوال النوع السامرائي الثالث ، وكأن من نقش الجص تناوب على نقش الخشب. ونجد الأمر عينه قد جسد النوع الأول لجص سامراء في باب خشبي يقبع اليوم في متحف أثينا، كان قد جلب من تكريت ويعود لنفس الحقبة. وبمعاينة منتج الخزف ذي البريق المعدني الذي يقبع موشيا محراب مسجد القيروان والذي جلب من العراق في نفس الفترة يعكس حسا فنيا وتفريغا شكليا موحدا. ومن المعلوم أن سامراء وتكريت والدور وتخومها مكثت محافظة على الأرث الآرامي، والفنون المسيحية العراقية التي سبقت الإسلام حتى أزمنة متأخرة.
ولقد أستعمل في سامراء نوع من الطوب المصنوع من الجص في بناء الطوق والعقادات المهمة . وورد أسم قصر الحويصلات مكنى بقصر الجص كما ذكر ذلك أبن سرابيون في عجائب الأقاليم السبعة قائلا(أن المعتصم بناه على نهر الإسحاقي وسماه قصر الجص) و مرده استعماله على نطاق واسع ، حيث وصل الأمر ا لى أن يستحدث نوعا من الخرسانة التي يخلط بها قطع الجلمود المفتت مع الجص وتصب في القوالب . و أنتقل هذا الفن إلى إيران وآسيا الوسطى في أزمنة سبقت الإسلام في حقب التلاقح الحضاري بين أصقاع الشرق القديم،لكن تصاعد تداولها إبان الحقب الإسلامية، و نجد خير أمثلتها في مسجد نايين العائد إلى القرن الرابع الهجريالعاشر الميلادي، إبان الحقبة البويهية ،ونجد هنا ثراء في النقش الذي يكتنف محرابه وهو تركيبة موفقه لطرز سامراء الثلاثة وغلب فيها النوع الثالث .ثم أنتقل هذا الفن إلى مصر الإسلامية إبان الولاية الطولونية (868- 883م) من ضمن مساعي نقل طرز العمارة والفنون التي سعى لها أحمد بن طولون المنحدر من بغداد و سامراء. ونجد فنون الجص قد تجسدت في بيوت الفسطاط التي تحاكي النوع السامرائي الثالث، وتوجد اليوم خير أمثلته في جامع ابن طولون المشيد عام (265هـ 879م) ،والذي زينوا به بواطن العقود بالطرازين السامرائيين الثاني والثالث.
وفي المغرب الإسلامي ،يمكن أن يكون تداول خامة الجص قد سبقت الإسلام من خلال تواشجها مع فنون الشرق القديم . لكن حدثت انتقاله مؤثرة إبان الحقبة الفاطمية،ثم الحمادية من خلال ظاهرة(الليثوروجيا) أو إستقدام الصناع والحرفيين ،وسمى به إلى الذروة التي نجدها في زخارف مسجد القرويين في فاس التي تعود للقرن الثاني عشر الميلادي وبعده بقرنين نجده وطأ الأعجاز مبثوثا في ثنايا قصر الحمراء في غر ناطة، الذي مازال صامدا كالحجر لم يعتره وهن، وقد دعا ذلك إلى تحليله مخبريا خلال عمليات الترميم التي ابتدأت في القرن التاسع عشر ،و أثبتت التحاليل وجود مادة عضوية في تركيبته يذهب البعض الى أنها صفار البيض، الذي يقبع خلفه سر مقاومة الجص وثباته خلال ما يقارب السبعة قرون.
وانتشر استخدام الزخرفة الجصية في العهد الأيوبي في الشام والموصل لتزيين جدران المشيدات المهمة ،ومنها البيمارستان الواقع في الصالحية في دمشق وفي مدرسة سوق صاروجا. وفي العهد المملوكي صار استخدام الزخارف الجصية المنقوشة على الجدران أمرا نادرا وأضمحل في القرون العثمانية،حتى أفتقد بريقه في العمائر العراقية والشامية والمصرية بعد حين،ولم يعد من خصوصيات المعالجات الفنية .
بيد أن ذلك العرف استمر في فارس وآسيا الوسطى ثم أنتقل للهند مع فنون الشرق بعد السلطان المغولي أكبر وأحفاده همايون وشاه جيهان. وفي آسيا نجد استخدامات الجص التي غطت مساحات كبيرة من جدران المساجد ،و تلاقحت مع النقوش الكتابية وحورت الحروف الكوفية لتذيل بتوريقات انسيابية،تجسدت فى مسجد "حيدرية" بقزوين ،وكذلك في بطون العقود بجامع أردستان وبرج السلطان مسعود الثالث بغزنة إبان الدولة الغزنوية في أفغانستان ، واستخدمت أيضًا الزخارف الجصية في زخرفة جدران القصور مثل قصور أمراء مدينتى الرى (طهران لاحقا)،وسافه في فارس. وفي تلك البيئة نجد أن فن الجص قد خرج من عالم التجريد المتعارف عليه إلى عالم التجسيد للأشكال البشرية وبحجوم نحتية كبيرة مثل نحت لرأس أمير سلجوقي يعود لتلك الحقبة.
و من الطريف أن الشعوب تعود لتراثها وخزين أعرافها عند الشدائد والقطيعة من الحداثة،وهذا ما حدث للعراقيين إبان الحصار الكافر (1991-2003)، حيث لجأوا إلى خامة الجص يقلبونها لزمن ما قبل ظهور السمنت، وتسنى لهم أن يستبدلوا الأسقف السمنتية التي وردت بعيد استعمال الهياكل الحديدية التي أقتبوسها من الألمان إبان بناء سكة حديد برلين-بغداد. وحل محلها عرف عراقي قديم يدعى (العقادة)، ويجسد من خلال تسقيف المنزل بخامة (الطابوق) الذي يرص على شكل حنيات بعد إضافة الجص بغزارة بين مداميكه. ونجزم أن الأفق مفتوح لفتوحات في تصنيع مواد جديدة من تلاقح الجص وغيرها ولاسيما مكبوسات لوحية مع خامتي القصب والبردي أو جريد النخيل أو ليفه أو غيرها من مصادر البيئة المحلية، لنؤكد من خلالها أن تلك الخامة كان توظيفها الأول عراقي،ومازال العراقيون الأجدر بتطويرها.






رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د. علي ثويني


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM