ان لمحة بسيطة لجسد المسيح المصلوب لا يترك لدينا اي شك باحتفاظ هذا الجسد ببعض القوة وهو يواجه لحظاته الاخيرة. ولا يترك روبنز اللوحة دون ان يسبغ على اجساد مصلوبيه تقوسات المعاناة والرفض _هنا يتلخص ميراث الاسلوب المتكلف_ فالاجساد في لوحات روبنز لن تنعم بالهدوء والاسترخاء رغم صلابتها وايمانها بالحياة. لوحة الصلب لبيتر بول روبنز حين ننتقل الى الحركة الرومانسية وهي الاسلوب الفني الذي ظهر في اوائل القرن الثامن عشر ، يتخذ الصراع شكلا اكثر شراسة وتمثل اعمال ديلاكروا افضل مثال لذلك فابطال ديلاكروا يواجهون عالما شرسا كما يصفه الشاعر بودلير. (4) لقد اراد ديلاكروا ان تعطي اجساده الحدث روحا صارخة مبتعدة عن الاحتشام المتعسف لاسلوب الكلاسيكية الجديدة. وعلى اي حال لا يمنحنا الصراع في عالم ديلاكروا قدرة التفاؤل فالمعركة التي تخوضها اجساده غير محسومة النتائج . ان اجساده غالبا ما تبدو مستلبة واثمة كما في لوحة جحيم دانتي وهي في احسن احوالها اجساد منتهكة ومنزوعة البراءة ، بؤكد ذلك القاء نظرة فاحصة للوحة (الحرية تقود الشعب) حين جعل جسد الفتاة الشبه عار مركز اللوحة في مقاربة لا تخلو من حسية مقصودة مقابل اجساد الضحايا الملقاة تحت اقداخها، لقد وظّف ديلاكروا جسد الفتاة المثير لينتقد هذه الحرية التي لا تحفل بالضحايا . انها الحرية المغرية التي تدوس حكمتنا.
الحرية تقود الشعب لديلاكروا مع ظهور التعبيرية والتكعيبة تعامل الفنان التشكيلي مع الهيئة البشرية بشكل اكثر فاعلية وجراة ، وان تركزت مقاربة الاسلوب التعبيري على الوجه البشري بوصفه مركز التعبير الانساني. في عام 1922 رسم بيكاسو لوحة (لوحة الام والطفل) التي راى فيها الناقد الان باونيس (بان تضخيم الشخوص عمل على تصعيد عواطفه الخاصة الى مستوى الحالة الانسانية الشاملة) (5)
لوحة الام والطفل لبيكاسو ويذكر نفس الناقد كيف تعامل الفنان الفرنسي فرناند ليجيه مع الاشكال الضخمة مستخدما مقاربة مختلفة عن مقاربة بيكاسو حيث يقول ( نجد نساءا مفخمات ومسترخيات بشبهن الاصنام، اصناما لا تتراءى وفق نظام ميتافيزيقي بل وفق النظرية الصورة. ان شخوصه تنتمي الى جنس اكثر نشاطا واكثر عافية من جنسنا البشرية . ان شخوص فرناند ليجيه ينضحون صحة و حيوية .
انه الانسان الذي بشرت به رفاهية التقدم الصناعي (6). من الواضح ان هذه المقاربة للشكل البشري تهدف من خلال عملقة الشخوص الى عملقة موضوع اللوحة.
لوحة للفنان فرناند ليجيه استفادت الواقعية الاشتراكية من هذه الرؤية ، نرى ذلك بوضوح في اعمال الفنان المكسيكي دييغو ريفييرا (7) ناه حاهع شخوصه مشحونة بالمعاناة وهذا واضح من خلال الاوضاع التي تتخذها اجسادهم، وهعي اوضاع مرهقة ومنكسرة احيانا ويطرح هذا الامر تساؤلا: كيف تحتفظ هذه الاجساد بمثل هذه الضخامة رغم هذه المعاناة ورغم كونها محاطة بفضاءات منحسرة؟ يكمن الجواب في عشق شخوصه للحياة فهو الذي جعلهم يتعملقون رغم معاناتهم ليشكلوا هذا الحضور القوي فمعاناتهم لم تمنعهم من ان ياخذوا حجمهم الذي يستحقوه على لوحة حياتهم القاسية.انه مؤمن بالانسان المكسيكي فضّخمه بازاء فضاء القماشة واحبه فوضح حساته بالوان مشرقة .
لوحة للفنان دييغو ريفييرا واذا تبنت اعمال ليجيه ودييغو هذه الهيئة ومنحتها حضورها الذي تستحق على القماشة ، فان الفنان فرناندو بوتيرو (1930- ) وظفها لابراز رؤيته الساخرة نحو الانسان في مقاربة طفولية محببة ومدروسة . تشبه سيرة الفنان الكولومبي الى حد كبير سير اساتذة الفن الكلاسكيين الذين عملوا في بداية مسيرتهم الفنية على زيارة الدول التي تحتفظ بروائع الفن الكلاسيكي في محاولة استلهام ما يعزز رؤاهم الفنية. يذكر الناقد سلفيو اكاتوس ان فرناندو بوتيرو درس الفن في ايطاليا وزار لندن ومدريدو ابدى تاثره بالفنان الاسباني فيلاسكويذ اشهر رسامي الباروك في الباط الاسباني حيث انجز اعمالا ما يزال تاثيرها حاضرا على عمالقة الفن الحديث (8) . من بين ابرز ملامح لوحات فيلاسكويذ ، التركيز على الاقزام المرافقين للامراء . لقد منحتهم معاناتهم الجسدية حضورا عاطفيا في اعماله ففي لوحة (الامير ) وضع القزم بنظرته الساهمة في مركز رؤية المتلقي ليخلّف الامير فيليب بعيدا عن مشاركة المتلقي الانسانية.
لوحة الامير لـ فيلاسكويز هذه المقاربة تركت اثرها على روية بوتيرو وهو الامر الذي كان له ابلغ الاثر في تجسيم حس السخرية في اعماله التي تجمع بين الرصانة الكلاسيكية والرؤية المعاصرة. تشكل الهيئة البشرية البالونية والتي تقف وراءها نرجسة طفولية محببة ، الموضوع الاساس في اعمال هذا الفنان. انه ينظر الينا والى نفسه نظرة طفل مشاكس وظّف الهيئة ( التي اريد لها من خلال اعمال مجدت الانسان) لتكون شاخصا بارزا بشكل مبتكر لتعميق احساسنا بالمبالغة التي نقنع انفسنا بها. ان المتلقي امام شخوص بوتيرو وهو يلاحظ اشتراكهم بنفس الهيئة المتجيدة بامتلاء الوجوه مع ضياع الملامح وصغر العيون الساهمة وتخمة الاجساد يرثي لضياع وجودهم الحقيقي في هذا الوجود الجسدي المتخم. انه يتعاطف معهم في محاولتهم اقناع انفسهم بحجم حضورهم الذي يحتل قماشة الفنان لكن هذا الحضور لا يرسّخ الا الاحساس بالعبء الذي تحمله ارواحهم الطيبة.
لوحة للفنان فرناندو بوتيرو يبدو ان الصراع القاس الذي تظهره لوحات ديلاكروا يتواصل على بعد الشقة الزمنية مع قماشة الفنانة الانكليزية سيسلة براون التياعتقد بان قماشتها تمثل الوجه المعاصر لقماشة ديلاكروا حيث الاجساد المستباحة والمواجهة المدمرة بين الانسان ومحيطه. ان الصراع في لوحات ديلاكروا يفرز عناصره ، يستطيع معه الانسان ان يميز عدوه، لكن الانسان في عالم سيسلي لا يعرف ماذا يصارع. ان مقارنة اعمال سيسلي براون باعمال ديلاكروا تمثل رحلة الوجود الانساني على قماشة الحياة من جراءة المواجهة القاسية الى تراجع الروح البطولية في مواجهة غير متكافئة . لقد وصل الجسد في لوحة سيسلي براون الى كيان مفرغ من قوته.
لوحة الفنانة سيسلي براون لا تدعي هذه القراءة رصدها للجسد في كل تمظهراته على سطح القماشة عبر هذه المراحل الزمنية ، ولكنها شرت ابرز المحطات خلال الستة قرون الاخيرة والتي توصلنا الى حصيلة ما انتهى اليه الفن المعاصر : ضياع الانسان على القماشة بينما كان يبحث عن حلة جديدة لوجوده وكانت البداية ، الاحتفاء المكانيكي لانسان ليجيه الخارق وانتهاءا باقصاء الجسد عاريا محاطا بالمجهول. في لوحة سلسلي براون وبين سخريته من ضآلة وجوده ومحاولته عبثا في ان يتعملق في انتفاخ ساذج على قماشة بوتيرو. الفرق بين نهايتي براون و بوتيرو هو ان اجساد سيسلي براون لا تشعرنا بالتعاطف مع وجودها على القماشة ولعلها لا تتعاطف مع وجودها هي ايضا وهي ومن خلال اسلوبها الذي احتفظ ببعض التشخخيص ما زالت تذكر بالانسان الذي ضاع وسط كم هائل من الالوان والاساليب الفنية التي ظهرت عبر عقود القرن العشرين. هل كف الفنان الغربي عن الايمان بالجسد وانتهى به المطاف الى الغاء الحضور ليبحث عن فكرة اخرى عن الوجود الانساني! ولكن يبقى ما يجعلنا نتقبل هذا الوجود رغم رؤية فرناندو بوتيرو الكاريكاتيرية لانها تبدي تعاطفا نحن بحاجة اليه لنواسي انفسنا، وربما لان هذه الرؤية تحتفظ بطفولتنا التي اضاعتها رحلة الحياة ونحن نحاول في كل ما نفعل ان نستعيدها ولو للحظات. على الرغم من حقيقة ان الجسد لعب دورا محوريا في اعمال عديدة شكلت انجازا فنيا مهما، فالدراسات النقدية المتاحة لم تركز على تاريخ الجسد في اللوحة بوصفه انعكاسا لرؤية تتغير مع تغير الظواهر المحيطة والعلاقات الفاعلة وربما تمثل هذه القراءة اقتراحا لدراسة مكونات احياة في اللوحة على غرار الدراسات التي كرست للّون والخط والتكوين والاسلوب .
ان للجسد والمدينة والطبيعة تارخها الحسوي على القماشة ايضا وقد مرت بما مرت ببقية العناصر الجمالية من تغير في حجم التعامل ونمط التفكير وانا افترض ان مثل هذه المقاربات في دراسة العمل الفني تمنحنا فهما اكثر شمولية لتاريخ المكونات البصرية لقماشة الرسم .
المصادر:-
1- W.H. Johonson, Dova Jane Jhonson, picture history of art from cave paintings to modern times
2- نفس المصدر السابق
3- دبليو اي هوناكر ، هل اللوحة ما يرى ، ترجمة د.فائز يعقوب الحمداني، الثقافة الاجنبية ، عدد 4، 2001
4- جلز نيريت ، يوجين امير الخيالية، ترجمة د.فائز يعقوب الحمداني ، جريدة الاديب عدد 13
5- الان باونيس ، الفن الاوربي الحديث ، ترجمة فخري خليل، دار المامون للترجمة والنشر
6- اي جي مولر و فرانك ايلغر ، مائة عام من الرسم الحديث ، ترجمة فخري خليل ، مراجعة جبرا ابراهيم جبرا، ، دار المامون للترجمة والنشر
7- عفيف بهنسي، موسوعة تاريخ الفن والعمارة، الجزء الثاني (الفن في اوربا منه عصر النهضة حتى اليوم).
8- Silvio Acatos, Fernando Botero, artist and art historian, artnexus .net