وكانت الموسيقي لصيقة لحياة الإنسان السومري وموته، وهذا ما قرأناه في مذكرات العلامة الاثاري ماكس مالون والذي شارك العلامة ليوناردو وولي في الكشف عن مخابئ وأسرار وكنوز المقبرة الملكية في أور عندما يقول في صفحة 52 من المذكرات (كان مشهد المقبرة الملكية رائعاً عندما كنا نعمل جميعاً. وأذكر أن أحد القبور الملكية ضم ما لا يقل عن 74 شخصاً دفنوا أحياء في قاع المهوي الملكي العميق. بدأ عندما كشفنا سجادة ذهبية اللون مزينة بأغطية الرأس لسيدات البلاط، متخذة أوراق شجرة الزان، وعليها آلات القيثارة والقيثارات (Harps and lyres) التي عزفت الترنيمة الجنائزية إلي النهاية). لقد اقترنت هذه القيثارات بذوق الملوك والأمراء كثيراً، وكان أمراء وملوك سومر يحسنون العزف علي الآلات الموسيقية وفي تقديري من جعل الموسيقي مستوي لرؤية ثقافية معينة دليل علي رقي حضاري كبير، وهذا ما كشفته لنا المدونات وقرأناه في أوراق السيد وولي ومذكرات مالوان ، وما ترجم من آلاف الألواح التي وجدت في مكتبة الملك الآشوري (اشور بنيبال).
إن وعي الموسيقي في الذاكرة السومرية بدا خيالاً مفرطاً في الجمالية ، وأظهر تبايناً واضحاً في تقدير الفرد داخل المجتمع. إذن في هذا المعني نري إن الموسيقي كانت تمثل طموحاً اجتماعياً يريد أن يرتقي به الفرد وهذا يقودنا إلي الاعتقاد أن المجتمع السومري هو مجتمع يقترب من يوتيبيا خاصة فيه وهو مجتمع قريب إلي المثالية التي هي مفقودة اليوم في أغلب المجتمعات، ولتأكيد هذا الكلام تقول الدكتورة دشس جيلمن (Duchesne Gailemin) من جامعة ليبيج في بلجيكا: (كان الموسيقيون فئة حرفية مهمة في ما بين النهرين، وأضحي بعضهم موظفين ذوي مناصب رفيعة في البلاط . كانت الموسيقي تلقن في مدارس بلاد الرافدين وكان التلميذ غير الموسيقي موضع ازدراء زملائه).
وبهذا تحتفظ بقيمتها وفق سياق الرؤي الحضارية ، وهي في انتظام سعيها الروحي تحاول أن تدرك ماهية المادة تلك التي سعي الإنسان لكشفها منذ البدء وعندما لم يعثر عليها في حياته الأرضية ، جاهد لإيجادها في فردوسه المنتظر، فقد أذهلت ( ليوناردو وولي ) الصفوف المنتظمة مثلما تتصاعد السلالم الموسيقية للهياكل العظيمة المدفونة مع الملك في قبره البارد ، وكانت القيثارات وأهمها صندوق الموسيقي الذي أسماه وولي (الراية الملكية) ، الذي ما زال فيه أثير بقايا أنغام تخلط أجواء الذاكرة الهائمة للفرد السومري في بحثه الدائم عن خلوده. وهذه الفكرة - أي فكرة الخلود - مثلت الهاجس الأرقي في الأدبيات السومرية، وكانت ملحمة جلجامش تمثل جانباً حيوياً فيها، وأعتقد إن الحانات التي تحدثت عنها الملحمة كانت تضج بالعشرات من ضاربي الوتر. وربما البغي التي أغوت انكيدو في العودة إلي الحياة البشرية أستخدمت الموسيقي مع مفاتن جسدها. لذا مثلت الموسيقي في بعض الملاحم والقصائد سمة الوصول إلي قدرة الإله علي حل المعضلة الإنسانية التي تصيب البشر في بعض أزماتهم، وكان لوجود الموسيقي مع قدرة الآلة هو الفرج الذي يحل كل شيء ويبين العلاقة الوثيقة بين الفعل السحري للآلهة والفعل السحري للموسيقي، فهذا رجل من بابل يطلب الرحمة من مردوخ علي النحو الأتي:(لساني المعقود الذي لا يقوي علي النطق حل عقدته فهل علي الكلام. حنجرتي التي ضاقت واختنقت ..أرجعها إلي وضعها وصارت تغني كالمزمار)
إذن حلت العقدة لهذا الداعي مع الموسيقي وليس مع شيء آخر، وبهذا يكون فضل الموسيقي قد ارتبط بأعمق مدرك روحي لدي إنسان وادي الرافدين فكان له أن يضع في أدبه سطوراً تعبر عن قيمة الوعي بإحساس الذي يولد من الوتر ويحاول أن يخلق فئة من مدركي الحس ، أولئك الذين حملوا علي عاتقهم التبشير بحضارة سومر العراقية التي كان لها الريادة لتكون ذاكرة التاريخ وشمعته الأولي . ولكي نتخيل النقاء الروحي للموسيقي السومرية، علينا أن نفترض عالم الفنتازيا السومرية بمكنوناته البيئية وتكوينه الاجتماعي، وكمن يضع سيناريو لحياة مدينة ستكون مدينة أور أشهر مدن سومر هي المدينة المفترضة ، وكانت أور في مجدها الذهبي أيام السلالة الثالثة تحوي شعباً واعياً بدءاً بالملك وحتي الفلاح البسيط ، ولكن الجميع يلتقون في فكرة أن تكون الحياة السومرية هي نمط جميع يختلف عن حياة الشعوب المحيطة، ولذلك كانت فكرة اكتساب ملامح الحياة السومرية فكرة عامة عند كل الشعوب المجاورة من أعالي الفرات وحتي نهايات مملكة عيلام. في هذا العالم تكون سرمدية الحياة اليومية معتمدة علي طقوس بداية يوم العمل أو التوجه إلي ساحة القتال أو المعبد، ولكن بنية النظام الاجتماعي كانت متكاملة ، حيث كانت هناك المدارس والمعابد وبيوت الحكمة والحانات وحوانيت البضاعة والصناع. وهذا البناء ذو بنية تقترب حتي من بعض مجتمعات القرن الحادي والعشرين، وفي ظل هذه الأجواء كانت الموسيقي تمثل حيزاً كبيراً من الهاجس الثقافي لهذا المجتمع بل تصاعد تأثيرها ليصل إلي أعلي المناصب حيث أكدت الاثاريات إن حفيدة الملك الأكدي نرام سين كانت موسيقية وأن الملك السومري شولكي كان يفتخر بأنه يجيد الغناء والعزف علي العديد من الآلات الموسيقية وهذا يقودنا إلي : إن تعدد الآلات يمكن أن يخلق ما يسمي اليوم فرقة أوركسترا مع مؤدين حيث تتدرج مرتبة المغنين في الوسط الموسيقي السومري فيسمي المغني الكبير (نارساكال) ، وقد يصل هذا المغني إلي أعلي المراتب كما حصل مع المغني السومري (نام - خا - ني) ليصيح حاكماً لمنطقة لكش خلفاً لحاكمها المشهور كوديا. وهكذا تكون أور موطن لفتنة الروح ، والنقاء الذي يظهر وجه الحقيقة التي سعي الإنسان إلي إيجادها عبر مدركات عديدة كالشعر والصلاة وتدوين الملاحم، إن الموسيقي هي واحدة من أجمل مظاهر الدهشة التي تكشف لنا مفاتن الحسن في حياة كان الجميع يتصورها إنها مجرد أحجار وألواح تزين متاحف العالم ، ولكنها إلي اليوم تنبض بالحياة. فعند لحظة الوقوف والتأمل لقيثارة أور الواقفة بهدوء المايسترو أمام حشد من الموسيقيين وسط صندوق الزجاج، أعود إلي رؤي الوجد والحلم إلي عالم المثل العظيمة ، العالم الذي كانت ذاكرته من ذهب وعشب ، وكانت ينمو علي نقاء الأطروحة الكونية، حيث لا ناطحات سحاب ولا مسارح فخمة ولا طائرات تلوث فضاء التأمل في تلك المراعي الخصيبة التي تمتد أمام أور حتي تصل إلي أبعد البطائح، وكانت هناك أفواج الرعاة والصيادين يطلقون صوت الأمل الملون والمعجون برغبة إكتشاف حقيقة لماذا ولدنا ولأجل من؟ حيث تأتي الدوافع الإيمانية بالانتماء إلي القدر السماوي الواحد هي الفكرة التي تهيمن أخيراً، فكان الأنبياء في بعثهم إلي تلك الشعوب ومنها شعب سومر هو تأكيد علي أن هذا التناغم يحتاج إلي نقاء كلمة تجمع الصوت الجميل مع النداء السماوي بالتوحيد، عندها تدرك سومر حقيقتها الجديدة وتعيد إلي مطلق فلسفتها رؤي إنسانية رصينة تجعل من إحترام الحضارات لهيبتها وقدرتها علي أن تُبقيَّ الريادة إليها مهما تقادمت العصور وتنوعت الحضارات. لأن هذا يقودها إلي بدء جليل تستطيع أن تتخيل فيه أحلام الموسيقي وهي تعزف لحظة انبعاث الشيء إلي مستوي قد يفوق قدرات الذهن الحاضرة اليوم ، والتي قد تضيع في رؤي موزارت أو صوت أم كلثوم. ذلك إن المتاهة السومرية هي نتاج انفعالات متداخلة في أروقة الميتافيزيقيا، لهذا نجد أن القيثارات المدفونة في أقبية ملوك سومر عند موتهم تحدد إيمان الإنسان السومري بالبعث الآخر، وأن الوجود المُكملَ ربما لا يأتي سوي عندما تطلبه الموسيقي. ويبدو أن ليوناردو وولي أنتبه إلي هذا الشيء في نهارات البحث عن كنوز المقبرة الملكية ليقول في أوراقه : (إن رؤيتي للقيثارات قرب الأجساد الممدة بهدوء. أرسل في صدري عالماً من بهجة الموسيقي). هكذا إذن أورثتنا الموسيقي ظل الشيء المحسوب وهي في مقدمة الأفعال الإنسانية التي تدرك فيها خيارات الظل المشع علي عبادات الآخر. وربما ندرك في الموسيقي السومرية سرمدية الذات التي تفكر بتجاوز معضلة اليوم الصعب عندما تستعبد من قبل ثري أو كاهن أو أمير لتجد في الموسيقي سلوة الوصول إلي حكمة القناعة بأن الآلهة تضع في الموسيقي مسببات قدر الولادة لكل سومري وسنقرأ في هذه المدونة ما نراه تأكيداً لما سبق ذكره : (أضربي في البوق. واعزفي علي الوتر.. سأري في ذلك الطريق... وأشاهد المشيئة المطلقة..إن إرادة الآلهة كتبت قدري.. وشاهدت في عزفها حياتي القادمة.)
بهذا التعبير فإن الرؤية أكدت صلة الموصول بين حقيقة أن يكون الإنسان وارثاً للهم الأكبر وبين أن يكون المدرك الأول للحلم. ويمكن أن نقول إن البهجة التي ظلت سومر تبحث عنها طوال عصورها المجيدة قد ارتبطت بوعي الموسيقي وما احتفالات الموت الجنائزي في أقبية مقبرة أور المقدسة إلا تأكيد علي ذلك وسوف نتخيل في مستوي وعي التاريخ الذي نملكه من خلال الأثر والمدونة وما فعلته الأميرة السومرية بو - آبي الملقبة خطأً بالأميرة شبعاد في قبرها ذي الرقم (800) والمكتشف من قبل الاثاري وولي. حيث بدت رطوبة القبو الملكي في ظهيرة تموز ترسل إشعاعات باردة من موسيقي غارقة في القدم.
صدي القيثارات
وكانت عظام الأميرة تصطف برقة الارتخاء إلي صدي القيثارات التي تبعث في المكان الفسيح الرغبة في إبقاء الزمن واقفاً علي قدميه وقد لونت المشهد بانفعالات ضوئية ومتوازية من إيقاعات بعيدة. وكانت موسيقي ذلك العهد تدرك بقايا الغاية المتماثلة في صورة الخلق. لقد أدركت الأميرة شبعاد ( - بو - آبي - ) إن الرؤية القدرية للموسيقي تمثل حاجة البدء ليكون فكانت سومر تستحضر أحلامها بالموسيقي مثلما يستحضر الكهنة آلهتهم المميزين..
يقول ليوناردو وولي في أوراق حرص علي كتابتها بالحروف اللاتينية : (كانت الموسيقي توازي لحظة التفكير بخلقٍ ما ، وأن الموت اللذيذ الذي ساد في المكان ، أعطي المشهد رغبة مباحة) . ومن هذا ندرك في كلام العلامة وولي إن الموسيقي تجعلك تموت بسعادة. وهذا ما فكر فيه السومريون ، وجعلوا الموسيقي واحدة من شواهد حضارة، لم تنم علي جسدها أشواك الحروب، بل فرضوا لحياتهم نمطاً خاصاً من الارتقاء بالحاجة للوصول إلي المعني . وكان القبو في موسيقاه الشعائرية يؤدي غرضاً واحداً هو الإمساك بسعادة العالم الآخر، وهذا ما كان يظنه السومري أمراً نستطيع أن نحققه مع الموسيقي فقط.
كانت الموسيقي وما زالت تفرض رهبتها علي السماع الذي ينتقل بقدرة قادر إلي مكامن الروح فينا. ويبدو لي أن الروح البشرية وسعت من قدرتها علي ألفة مع هذا الهاجس، وكان بمقدورها أن تصل إلي ابعد من ذلك لولا التداخل الحضاري، وتلك المساحات المتطرفة في الرغبة الإنسانية للوقوف علي أشياء أخري. أهل سومر لم يدركوا هذا بفطرة إنسانية صنعتها بدائيات الخلق، لقد كانوا يدركون الوصول إلي مستوي الفهم الذي تصنعه الموسيقي وليس إلي مستوي ((السماع)) بل الروح أولاً. لذلك هيمنت الموسيقي علي واحد من أرقي طقوس التفكير لدي الذات السومرية وهو (طقس الموت) أنه الفيض الذي تتداعي عنده أحلام الحكماء والشعراء وحتي الآلهة ولذلك كان قبو الأميرة بو - آبي يتحدث في مشهده الجنائزي الهادئ عن روعة الوصول إلي الذروة. وكنت أنا نفسي قد دخلت إلي ذلك القبو ولكن بعد خمسين عاماً من اكتشافه ونقل جميع محتوياته إلي متاحف أوربا. ورغم هذا كانت الرطوبة ذاتها والقيثارات ذاتها تمنح الرغبة شعورنا بادراك شيء ما. شيء خالد فينا كما القصائد المذهلة. وكان عازف القيثارة وصورة السيدة الملكية شبعاد يرسمان علي جدار القبو وأرضيته حركة مرتبكة لكائنات من كوكب آخر تذكرني بفرضية بعض العلماء من أن السومريين ربما هم أقوام جاءوا من كواكب أخري وهذا يعطي الموسيقي بعداً آخر غير ما نفترضه في دراستنا هذه.