قاعدة بلا استثناء، جوالون رائعون يلبسون الفجيعة ثوبا، ويرسمون لقزحيات أطفأها الظمأ أجمل ابتسامات لزمن قادم، شعراء يكتبون بالوجع حروف السنين المحترقة في أزقة بغداد، وموسيقيون يعزفون علي أوتار قلوبهم أوهام التتار في عصبية زائلة تحرق معالم الحضارة من جديد،روائيون ونساجو معرفة، علماء وأطباء وإنسانيون حد النخاع يسحقهم الوجد علي قارعة الغربة من اجل مفردة اسمها العراق.
لماذا كتب علي هذا البلد العظيم أن يسدل تحت عباءة الذل مشردا علي أعقاب القرون ؟
سنوات تدفع أخري نحو الخراب، ووجوه يعلوها الهم بانتظار القادم من الأيام، ولا شيء سوي الذكريات، تحملها أصوات العابرين صوب المنافي البعيدة.
هو صوت آخر من الأصوات المهاجرة يحمل البكاء نذرا تحت جدارية الفرح العائم في بغداد، يحاكي بها ابتهالات جواد سليم، ويترنم بالأنين تحت نصب حريته، تلك الحرية المفقودة في أعقاب التحرير.
كمال خريش الذي اختار الهجرة إلي منافي الله البعيدة لم يكن بعيدا عن وطنه وإنما حمله معه حلما من أحلام الطفولة والصبا والذكريات.
فنان رائع وملهم ومتجدد، أكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة في بغداد أبان السبعينيات، والتحق بعد التخرج معلما للتربية الفنية في مدينته الناصرية، تلك المدينة الغارقة في النسيان، يعمدها ماء الفرات بأصابع كهنة سومر، ويتصاعد فيها بخور الأضرحة مع رائحة أتربة الحضارات المتعاقبة عليها.
العتمة والألوان الغامقة
ينهل كمال من تراثها صورا للتتابع الزمني فيها، أوجدها في التلاقح الذي أبدعته لوحاته مزيجا من الألم والكبرياء عند ملوك سومر وكهنة أكد وآشور .
غرق في التجريد، وطغت علي أعماله الأولي العتمة والألوان الغامقة، انبهر برامبرانت،وأخذه النور المنبعث من عتمة ألوانه إلي حيث الضوء المنبعث داخل نفسه، يحيله ألوانا متصارعة مع جدوي الحياة القاسية التي عاشها ويعيشها وسيواجهها لاحقا، والتي غيرت كثيرا في انطباعاته الحياتية، وانتقالاته في الرسم إلي آفاق جديدة، تعتمد الفاتح من الألوان، علي عكس المرحلة المعتمة التي امتازت بها لوحاته الأولي، والتي تأثر بها برامبرانت، ثم انتقل بعدها إلي مراحل جديدة ساعدته فيها خبرة الحياة، وأجوائها المختلفة في الانتقال إلي مراحل أخري أكثر بهجة، اعتمد فيها الألوان الفاتحة بعيدا عن عتمة رامبرانت، حيث يقول في لقائنا الخاص معه عبر الإنترنيت (طالما شدتني أعمال رامبرانت، حيث يأخذني النور المنبعث من عتمة اللوحة، واشعر حين مواجهتي لأعماله أن العتمة التي تسيطر علي العمل، أكثر عمقا وامتلاءا، ولا تفك رموزها ببساطة، وشعرت بالفارق الكبير حين انتقالي من الأنوار الساطعة نحوها، هذه الأعمال جعلتني أميل إلي التجريب، في محاولتي أن تكون الألوان المشرقة لا تخلو أيضا من الأسرار، وان لا تفك أسرارها بسهولة، وكل مساحة في اللوحة لها عالم يحتاج إلي التأمل والمشاهدة، وأثناء تأثري بالمدرسة التعبيرية حصلت عندي محاولات في محاكاة رامبرانت بأسلوب (نولده ، وفان كوخ) أنا تحولت كثيرا إلي هذا التوجه، حيث أميل الآن إلي الألوان المفرحة، وكل ما احتاجه الآن هو نشر الفرح حولي ولا اعرف إن كان ذلك سببه البيئة التي أنا فيها الآن، أو التي فارقتها.
الذي اعرفه هو إنني اقفز علي خطوط متعرجة من اجل الوصول إلي البدائية المطلقة).
ومع كل هذه الانتقالات اللونية في أعمال كمال خريش وفق تدرجات اكتسبت التروي والبحث عن الجديد في شغل مميز للوحاته، إلا انه في نفس الوقت ظل يبحث عن أصل الألم القابع في الجسد العراقي الممزق والأقدام الثقيلة لقوات الاحتلال وهي تدوس خاصرة الأرض العراقية وتستبيح ترابه وتراثه وتمسخ إنسانيته في الأعمال التي مورست بوحشية ضد أبنائه الآمنين، من اجل صياغة امثل للوحة تكشف السر وتثبر غور التساؤل المبهم الذي يدور في مخيلته، منذ اللحظات الأولي لانتزاع الحلم الجميل من ذاكرته المتخمة بآلاف التصورات الجميلة، عن شكل الحضارة العراقية المتمثلة برموزها الخالدة ، وهي تدنس بثقل الدبابات الأمريكية، حيث يقول في أولي مشاهداته لها وهي تقف تحت نصب الحرية وسط بغداد (كل هذا التحول الذي حصل يجعل الإنسان في حيرة من أمره وهو ينظر إلي المتغير الجديد حيث يمتزج الفرح بالحزن، والأمل بالخيبة، وقد هالني في كل هذا، وقوف المدرعة الأمريكية تحت نصب الحرية، ولا اعرف ما العبرة في ذلك حيث إن نصب الحرية ليس ثكنة عسكرية، ولا هو وزارة مهمة كوزارة النفط مثلا، ولا يمكن أن يطاله النهب وشعرت حينها أن المدرعة تدوس علي جسدي وتسحق قلبي، وخشيت كثيرا أن يظن الجندي الأمريكي أن هذا النصب هو رمز الدولة الرسمي، فيطلق عليه قذيفة مهلكة وينتهي كل شيء، وبعدها خشيت من بعض المتشددين الإسلاميين أن يرسلوا أحدهم ليفجر النصب كما حدث في أفغانستان.
نريد من نصب الحرية أن يبقي شاهدا علي كل شيء، والآن عندما أحدق في شخوصه وهي تأن تحت مفخخات القتلة أحاول أن أعيد صياغته بمعرض شخصي بعنوان (بكاء تحت نصب الحرية)، لقد افجعني أن يسقط رأس المنصور باني بغداد، وافجعني أيضا أن تهرب آثاره بأيديهم هم أنفسهم وليس غيرهم، وشاهدتهم وهم يعبثون بكل شيء، ولعل ما أحزنني حقا إنني شاهدت احد الجنود الأمريكيين يقول للمصور في احد المقابلات التلفازية باستغراب (لم أجد من يقنعني أن هذا الشعب باني حضارة).
الحضارة لا تبني بالمناسبات أو في حطام الزمن من التالف في الأيام حيث الغزوات والاحتلال والتدمير، هذه الأوقات هي أوقات مقتطعة في حياة الشعوب ، وإذا كان القهر أو الجوع الذي قد حتم علي بعض المظلومين الجائعين من سرقة أثاث الدولة وقت سقوطها، فهذا الأمر لا يحسب في حساب الحضارات وإنما يحسب في حساب السلطة المسؤولة عن ذلك الشعب قبل سقوطها. كما يحسب أيضا علي الزعامات الجديدة التي يجب عليها رسم الطرق الصحية لحياة امثل واشمل بعيدا عما يسيء لشعوبها.
ويحاول كمال من خلال شعوره بالأسي، لتلك الأعمال التي لا تتماشي مع كون الشعب العراقي من بناة الحضارة الإنسانية علي مر الزمن، نراه يبدع في موضوعات متداخلة تتجسد جميعها في موضوع واحد، يكون حصيلته معرضا شخصيا متكاملا في الفكرة، وبأساليب وتقنيات متجانسة لإكمال مشروع فني واحد، كما في قوله (أنا اخضع إلي فكرة معينة، امتلأ من خلالها بالأسي لما أشاهده أو المحه من إعمال مشينة، وربما بالسعادة في حالة التضاد من تلك الأعمال، وفي كل مراحل عملي التي غالبا ما تنتهي بمعرض شخصي، ومن خلال تلك الفكرة التي قد تتجسد بعد المشاهدة أو اللمحة كما قلت علي شكل مقطع من قصيدة، أو صورة فوتوغرافية، أو ابتسامة لطيفة، انهمك في العمل ولا أفارقه إلا بعد الخروج من تلك الحالة، لذلك أتنقل في كل مرحلة فنية بشكل كلي، ولا أضع اعتبارا للتسلسل الزمني، وعندما ادخل في مرحلة ما، أحاول أن أزج فيها كلما يدور في رأسي، واعتقد أيضا أن لكل حالة أسلوب خاص يلائمها، ولن احصر نفسي في القوالب الجاهزة، والمتابع لأعمالي يجد فوارق كبيرة بين مرحلة وأخري، وأحيانا أعود إلي الفن الأكاديمي، حينما أجد أن ذلك يخدم الفكرة أكثر، وهكذا أنا ارسم لوحة طويلة مجزأة إلي عشرين عملا أو أكثر يمكننا أن نطلق عليها في النهاية معرضا شخصيا ، حيث أقمت ثمانية معارض شخصية في هولندا بتتابع زمني متواصل اضافة الي العديد من المشايع الفنية الأخري ).
الابتعاد عن الإنشاء
هذه حالة والحالة الأخري،ربما يكون العمل التشكيلي شيء مختمر في الذهن قبل الانجاز، مما يدفع الفنان إلي تحضير اللوحة وإنشائها قبل الشروع في تنفيذها، ككاتب القصة أو الرواية الذي يرسم لأبطاله مسارات معينة قبل الشروع في العمل، ولكنه يجد أن تلك المسارات تحيد تلقائيا، وفق ما يريد الأبطال، لا ما يريده المؤلف، وبهذا فأن نتيجة القصة أو الرواية تكون مختلفة تماما عما رسمها لها المؤلف قبل التنفيذ.
ويؤيد الفنان كمال خريش فكرة الابتعاد عن موضوع الإنشاء في رسم اللوحة حيث يقول
(أنا اعمل علي الإنشاء أثناء التحضير للعمل، ولكن خلال الانهماك في خضم تداخل الألوان والخطوط أجد نفسي ذهبت بعيدا ولكن تبقي للعمل كلمته الأخيرة، في فرض الشكل النهائي له، ويتخلل ذلك ثيمات جديدة وإضافات وحذف، كلها في صالح العمل الفني الذي استجيب له، وانقاد معه، ولا أفيق إلا بانتهائه فأتركه كما هو مع لمسات أخيرة (فنشنك) إذ هي روح تلبسني، وتسلبني إرادتي ولكنني في الختام دائما أكون راضيا عن النتيجة).