ما كان يريد أن يكتب عنه ناقد، ولا أراد أن تكبّر صورته في أبحاث، فالاعلام الزائد عن مبدع يطيح به، وهو ما كان يبحث إلا عن لوحة، فهي الاعلام الحقيقي وهي تقدم رؤيته وفلسفته في الحياة، وكان يحدثني في بيته في جلسات طويلة عن كرهه لصحافة تلمع الاطارات دون الجوهر في باطن الاطارات، وكان يقول: دع الحياة تقدم نفسها بنفسها..!
ومرة كتب ناقد ان فائق حسن: (ليس مثقفاً..) أي انه لا يستطيع أن يعبر عن ثقافة بمستوي فنه أو رسوماته، وتبرم كثيراً من هذا التخريج، وقال هل من الضروري أن أشرح كل لوحة من لوحاتي ليطلع المتلقي علي ثقافتي، وكان علي حق، إذ يكفي الفنان الكبير أن يقدم لنا لوحته ثم نقوم نحن بتفسيرها أو بتخيلها بما نملك من ذائقة ومزاج خيالي، ووظيفة الفن في الاساس تحويل الاحتمالات إلي ضرورة، وتأويل الباطن..! وبتأويل أية لوحة من لوحاته يكشف لنا فائق حسن عن بعده الثقافي العميق، الحسي في جانب، والعقلي في جانب، والاستلهام الواقعي لحياة مجتمعة في جوانب متعددة، وفي كل ذلك كان يؤدي دور المعرفي في تقديم صورة أمينة عن مجتمع عاش فيه، كما أدي دور الفنان في تحريك رؤي التاريخ بوسيلة اللون أو بوسيلة الريشة، تلك البوصلة التي تحركت علي القماشة ورصدت حتي الشعيرات الصغيرة في جغرافيته التي تنفس فيها باسم الحرية التي ابتدعها في خلقه وتكوينه الانثربولوجي..! آفاقه في التجربة ورأيناه ينجز عبر حياته:
1- وضع قواعد لفن تشكيلي تبدأ من استلهام التراث الحضاري في العراق وتنتهي بمعايشة الفلكلور المعاصر، وكان يقول للاجيال التي تخرجت به ان (اللوحة يجب أن تتضمن تاريخاً رمزياً..) ويعني به الالمام بعكس الواقع المرحلي وملاحقته بخبرة اللون أو بخبرة تجميع الضوء..
2- انه أول فنان عراقي فلسف اللون، وأنتج عبر تجاربه الفنية (قيماً لونية) جعلها أساساً في بنية اللوحة التشكيلية، وكان يقول لتلاميذه: (في اللون وابداعه تتحدد فلسفة التشكيلي) بل تقوم اللوحة الرائدة علي طبيعة الالوان وترابطها وانسجامها، فإذا أتقن الفنان لعبة توزيع الكتل اللونية أتقن الحركة في اللوحة، لأن في اللون عمقاً وامتداداً وتموجاً وهذه كلها تفتح ألغاز ابداع الرسم..!
3- أسس (معهد الفنون الجميلة) سنة 1939 متعاوناً مع الرواد حقي الشبلي والشريف محي الدين، وفي عام 1940 أسس أول قسم للرسم في المعهد، وقام يدرب الجيل علي المهارة اللونية من الطبيعة إلي التكنيك المدرسي الاكاديمي وأراد بذلك أن يتخرج به رسامون محترفون وليس شهادات فنية، وتخرجت عليه أول دفعة وهي تودع عصر الرسم علي هواه وتنتقل إلي عصر يحدد ملامح الرسم بأصوله المدرسية، وكان منهم الفنان الراحل اسماعيل الشيخلي، وكان كل من خرجه من أجيال الرسم فيما بعد يتذكر في حالة الرسم ان طيف فائق حسن يتحرك فيه ذات اليمين وذات اليسار، هو وعباراته ومنطقه وتعاطفه الانساني..!
4- في أواخر الاربعينات أنهي جواد سليم دراسته في لندن وجاء ليؤسس في المعهد قسم النحت فصار في العراق أربعة أقطاب يبنون فيه هرم الفن: الشريف محيي الدين ينشر تذوق الموسيقي، وحقي الشبلي يرسم أفق المسرح، وجواد سليم يضع منحوتاته انموذجاً لأجيال تتعلم نحت التراث العراقي ثم فائق حسن ينقل الحياة إلي الرسومات، وتنافس الاقطاب في أي منهم يتقدم أكثر وأسرع، وزاد التنافس كلما تخرجت موجة ولاسيما بين فائق حسن وجواد سليم، وكل سحب جيلاً إليه، وكل أراد أن يتبوأ الاجيال، وأما النتيجة فإن التنافس الذي ساد كان قد ساعد علي دفع الحركة الفنية إلي التبلور وانضاج القواعـــــــــد وتزخيم الوتائر المدرسية..!
5- وأدي التنافس بين القطبين إلي ظهور (الجماعة) الفنية في الرسم، والجماعة إذا تصارعت خلق النمط الجديد، وإذا تحددت بأطر قياسية أنتجت العلو في الهدف الفني، فتأسست عبر هذا الصراع الخلاّق (جماعة أصدقاء الفن - 1941) و(جماعة الرواد - 1950) و(جماعة الزاوية) في الستينات، وفي الحق ان فائق حسن كان وراء هذه التأسيسات، لأنه كان يعتقد ان الفن لا يتطور إلا بتشكيل الجماعات وهي تتصارع أو انها بصراعها تقدم الافضل، وقد تأثر بهذه الفكرة أثناء دراسته في باريس، وبعد أن وجد ان الفن الفرنسي ولاسيما فن الرسم ما كان له أن يتطور لولا وجود الجماعات التي تبنت تيارات الفن التشكيلي وعالجته بالصراع..! وقد أنهي فائق حسن مرحلة من الرسم بتأسيسه قسم الرسم أو بتشكيله (الجماعات الفنية) عندما كان ذلك الرسم يحاكي الطبيعة علي أيدي رواده: عبد القادر الرسام ومحمد صالح زكي وعاصم حافظ وسليم الموصلي (والد جواد سليم) وجاء برسومات تخضع لمنهج مدرسي أو اكاديمي تحاكي ظاهرية الواقع وتعلم الرسامين كيفية التفاعل مع واقع يتنقل ويتغير ويترصد..! وهو نفسه كان انموذجاً لابداع لوحة تشكيلية، ففيه قلق وصراع وفيه تشوق لتجاوز خطأ العصر، وتشوق آخر يطارده لعبور المنظور، وكل هذه لابد للفنان المبدع من أن يعكسها في فنه أو ابداعه، ليقول في نهاية رحلته: (اني رسمت صيرورتي)..! مباهج الطفولة
كانت أمة تصنع رؤوساً فولكلورية من الطين وتبيعها أمام بيتها في محلة (قمر الدين) الشعبية، وفائق يأتي بالطين من نهر دجلة، بعد أن فقد والده وهو جنين، ويسأل: (أمي.. كيف تصنعين؟) وتعلمه الام أول وهلة أن يصنع (رأس الحصان) ويكون هذا الرأس بداية معاونته لأمه في صنع تماثيلها التخيلية الأخري..! وكان يقابلهم خان كبير مهجور تربي وتروض فيه خيول كثيرة لتاجر الخيول، وفائق جيئة وذهوباً يحدق بتلك الخيول: طرزها وأشكالها ويستمع لأنينها أو شجوها، حتي دخلت الخيول في أعماقه وراح يرسمها بالفحم علي جدران البيوت أو يصنع من طين امه رؤوسها وهي شامخة، ويسأله (محمد خضر) معلمه في مدرسة (العوينة الابتدائية) من علمك النحت (أمي بائعة التماثيل) أجاب بخجل، ثم تصفح المعلم دفتر الرسم فوجد تخطيطات لفائق تدهش العين،
قال له المعلم: (اترك التماثيل وتعوّد علي الرسم، والتزم بوصية معلمه ورسم ثم رسم أكثر من عشرين لوحة بألوان الباستيل، وكل لوحاته كانت تساؤلات وأجوبة عن طبيعة المرئيات في محلته الفقيرة، وعرضها في معرض المدرسة الموسمي، ونال الجائزة الاولي..!
ومن المدرسة يرحل إلي رؤية خاله الفلاح في قصر الملك، وفي جيبه الطباشير الملونة يرسم بها تخيلاته الطفولية علي أجساد الشجر، وحين شاهده فيصل الأول يرسم حصاناً منحنياً علي نهر سأله: (في أي صف؟) قال فائق متخشعاً (في السادس ابتدائي) ولاطفه الملك المؤسس (اني سأرسلك في بعثة إلي الخارج..)، ومات الملك 1933 وحزن فائق علي حظه، لكن الملك غازي نفذ وصية والـــــــده فيصل فأرسل ابن أخت فلاحه إلــــي باريس لدراسة الرسم سنة 1935 بعد شك وقلق وافقار..! من الطبيعة إلي البوزار
وفي باريس (1935- 1938) تفتحت فطرته علي أفق جديد، وضم إلي معهد الفنون الجميلة (البوزار) وطلب منه أن يدخل الامتحان (بتخطيطاته الخاصة) ورسم قمراً يمر علي شناشيل بغدادية ورسم دجلة تعانق منائر ذهبية ورسم الحصان في صحراء عربية، وعندما شاهدها استاذه (لوي روجيه) كتب له درجة مئة في مئة ومتعجباً..!
وفي فرص متاحة أخذ يتجول معالم باريس، برج ايفل وقوس النصر وقصور الملوك الاوائل، ويرسمها بالالوان المتيسرة كماء الورد ويجمع رسوماته في معرض متواضع ويزوره استاذه ويكتب في دفتر المعرض: (كلها تشير إلي فنان المستقبل..). ومرة أخري يستطلع باريس في عمق رسوماتها، ويمر علي المعارض الفرنسية الشهيرة بلوحاتها العالمية ويدقق النظر في محتوياتها وخاصة معرض (ماتيس) ومعارض (دبلاكروا) في متحف اللوفر، ومن هنا المعرض نقل بريشته لوحة (جحيم دانتي) فبهر بها استاذه وأعطي له أعلي درجة في تخرجه، كما حرّف وغيّر ملامح صور أخري بملامح جديدة مستوحاة من التراث الشعبي العراقي، وعند تخرجه من البوزار خرج فائق حسن من عالم الرسم المنفلت ودخل المنضبط عالمياً، ثم عرف ان الرسم لا ينبغي أن يكون مخيلة فقط واشباع رغبة فطرية فقط انما هو سلوك مدرسي ليس في المضمون فقط بل في الشكل أيضاً، وراح منذ مدة باريس يرسم معارضه في ضوء أبهر معالم تكنولوجيا الرسم العالمي، ونجد في لوحته تتقارب الابعاد اللونية في كتل مضاءة بحسب قياسات موحية، ونجد أيضاً وحدة قياسية بين شخوص لوحته، ويجمعهم بعد متجانس بعد أن كانت كل شخصية قبل مدة باريس تتحصن ببعد منفصل مستقل..! مرسمه كان شعلة الضوء:
وعاد إلي وطنه، ومن فوره قبل وجه أمه وهو يبكي: (لولاك.. أمي لولاك ..) وبدموعه اختلطت نبر المنتصر، لأنه جاء بشهادة ذيلت بتقدمه علي جميع زملائه في باريس..! وكان بيتهم عهدئذ في محلة (العيواضية) وفيه غرف واسعة اتخذ واحدة منها لتكون مرسماً له ولرفاقه وليصبح بعد سنة نادياً ثقافياً يجمع إلي رواد الرسم جواد سليم وعطا صبري وأكرم شكري كلاً من بدر شاكر السياب والبياتي وكاظم جواد، وجميعهم شارك وأنتج الظاهرة الابداعية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية.. وكل شيء خرج من ذلك المرسم النادي تناغم مع ايقاع الحرية، وأصواتها التي ارتجت بعد الحرب، وكان جميعهم يتفق مع اليسار العراقي في طروحاته في الحرية والتحرر ونبذ ونفي الفاشية، والمهم ان مرسمه كان يرسم ملامح جديدة لفن عراقي لابد أن يتحول إلي صفوف الفقراء والمحرومين، فظهرت اللوحة التي تبشر بالميلاد، وظهرت القصيدة الغاضبة علي روح الظلم والاستبداد، وبالمجموع ظهر الجيل الواعد الذي سمّي بجيل الخمسينات واحدي قلاعه مرسم فائق حسن، وفي الطرف الآخر راحت كوكبة من رجال الأدب والنقد تبشر بهذا الجيل وبمرسم فائق حسن ومنهم: علي جواد الطاهر وصلاح خالص وغائب طعمة فرمان ونزار سليم ويوسف العاني..! الرحلات
وفي جلسة من جلسات المرسم قال لهم فائق حسن: (الرسم لا يكون في غرف مقفلة..) ومنذ تلك اللحظة بدأ فائق ورفاقه الرسامون يخططون لجولات رسم في الميدان الفسيح، فعبروا السهول والجبال والصحاري والانهر، بحثاً عن موحيات يرسمون بها انساقهم وبألوان الطبيعة التي يجلسون إما فرادي أو جماعات، فرسموا العراق بألوان شتي وبأرواح شتي، ورسموا ما يرمز إلي الاقطاع وهو يسلب دماء الفلاحين الفقراء، ثم رسموا البدو الرحّل وهم يعزفون اناشيدهم الصحراوية، ولم يتركوا شيئاً إلا ومنحوه عاطفة الرسم ممزوجة بآفاقه الفسيحة..! وكانوا إذا رجعوا من رحلاتهم أقاموا لهم معرضاً مشتركاً، ويدخل إليه الجواهري الشاعر قائلاً: (بارك الله بالبصيرة، بعين تري وتكتب ثم ترسم مرة واحدة..!). والمرحلة كانت هي مرحلة فائق وجيله..! كتبوا عنه لا أحد خاصمه وهذا حظ، وحظ آخر له انه اجمع عليه: انه رسام كبير دون أن يقول اني كبير، وكان اجمع عليه في مقطع زمني آخر بريادته في الفن التشكيلي دون أن يعترض عليه رائد من جيله أو تابع من التابعين، وكان أيضاً مؤسساً لمشاريع، ومنظراً لمقولات في الرسم، ومعلماً اجتهد أن يبلغ الدرس، ثم بلغ المرتقي..!
وهذه كلها جاءت في كتابات نشرت تباعاً، فكتب نوري الراوي (ان فائق حسن مدرسة) وبحث في اركان مدرسته التشكيلية، وكتب شوكت الربيعي في ريادة فائق وحسيته العالية وأشار إلي تساميه، وعالج محمد الجزائري رسوماته في ضوء العلاقات الاجتماعية، ونبه صادق الصائغ الي الرابطة الحية التي تجمع فائق مع كائناته الخاصة وكتب سهيل سامي نادر غير مقالة يحلل فيها اسلوب وفلسفة فائق حسن، وعرضت مي مظفر ريادة فائق حسن بأساليب مختلفة ومتنوعة، وفي غير مقالة تصدي عادل كامل للمدارس التي اتبعها فائق حسن في لوحاته التشكيلية، انهم بحب كتبوا وأصالة واندفاع..!
واجزم انه خالد بخلود اتساعه في لوحاته، ومن اليوم الذي وضع الحقيقة في ابعاده الفنية، أو عندما نشر المفهوم في ألوانه، وصار هذا المفهوم أو العلة تاريخاً يشع فيه واقع العراق، بتعدد خصائصه وزهو ألوانه. ومضـــــــي إلي حيث يمضي مجد آخر..!
|