... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  مقالات فنيه

   
ثمانينية المدفعي: التعقيد والتعبيرية في العمارة (1-2)

خالد السلطاني

تاريخ النشر       26/09/2007 06:00 AM


  تستدعي المناسبات الخاصة بالمعماريين العراقيين النظر ثانيةً في مسارالعمارة العراقية الحديثة وتقييم منجزها، تقييم يمكن له ان يفضي الى قراءات متجددة بحكم ما يكتنزه ذلك المنجز من دلالات مفاهيمية مركبة، بمقدور آليات النقد الحديث الان كشفها وتحديدها.
 ومناسبة " ثمانينية " المعمار " قحطان المدفعي " التى تصادف في هذه السنة، (ولد في عام 1927 بالاعظمية ببغداد)، تتيحفرصة مواتية لقراءة ناتج العمارة العراقية،كرةً اخرى، ممثلا بعمارة صاحب الاحتفالية الذي شكل منجزه الابداعي ومافتئ يشكل مساحة مميزة ومؤثرة في عموم المشهد المعماريالعراقي والاقليمي على حد سواء، المنجز الذي ظل دائما ينطوي على اهمية خاصة ان كان لجهة تحديث العمارة او لناحية تنويعات ذلك التحديث.
 
 ودراستنا الحالية عن عمارة " المدفعي " تمثل استمرارا لما بدأنا به الكتابة عن ناتج العمارة العراقية الحديثة في دراسات سابقة شملت عمارة "رفعة الجادرجي " (1926) و" قحطان عوني" (1926 -1972) وقبلهما عمارة "جعفر علاوي " (1915- 2005) و"عبد الله احسان كامل " (1919-1985) و"محمد مكية " (1914) وغيرهم من المعماريين العراقيين الذين ابدعوا ما يعرف الان بمنجز العمارة العراقية الحديثة . ويظل التعاطي المستمرمع هذا الموضوع، الذي ازعم باني احد متابعيه، يمثل هماً مهنيا وشخصيا ، اتطلع من خلاله، وبمشاركة بقية المهتمين الذين ساهموا ايضا بكتابات وتقيمات جادة، الى تأسيس لما يمكن ان نسميه الخطاب النقدي المعماري العراقي، حضوره الذي يفترض ان يكون موازيا للعملية التصميمية ومواكبا لها منذ بداياتها ولحين الوصول الى مراحلها التنفيذية النهائية. ان بواعث هذا الاهتمام الشخصي لكثيرة ومتشعبة. منها احساسي بان هذا المنجز لم يحظ َ بعناية الكثيرين وظلت انجازاته الحقيقية مغرّبة وغريبة عن انظار اوساط اجتماعية واسعة، ومنها طبيعة عملي الاكاديمي الذي مارسته لفترات زمنية طويلة في جامعات بغداد ومدن مختلفة اخرى، ما طبع اهتماماتي المهنية بطابع خاص. وربما كانت ندرة ما كتبه المعماريون المصممون انفسهم حافزا آخرا لهذا الاهتمام. اذ ان بخلاف كتابات " رفعة الجادرجي " الرصينة والمتنوعة والمستمرة والمقالات المبكرة " لسعيد علي مظلوم " وبعض مداخلات " معاذ الالوسي "، فان ماتناوله المعماريون المصممون عندنا يعد شأنا قليلا، نسبة الى ماهو جارٍ او متعارف عليه في الاوساط المعمارية العالمية. وقد يضاف باعثا آخرا لذلك الاهتمام منبعه وضعية اقامتى الحالية وخصوصيتها بمنأى عن وطني وشغفي الحماسي الحالي بامور بلدي وانهماكي باعادة قراءة ما تحقق هناك تكريسا للوصل والتواصل ؛ " فكل انسان اقام بعيدا عن اصله، يظل يبحث عن زمان وصله " كما يقول " عمنا " المتصوف " جلال الدين الرومي ".
واياً يكن، فان مهمة الحديث عن العمارة العراقية الحديثة، وبالطبع عن مبدعيها المميزين، تكتسي اهمية خاصة، من حيث انها مهمة مفيدة ومطلوبة.. وواجبة ايضا. على ان جدوى طروحات نقـّاد العمارة الذين انبروا للكتابة عن تلك المهمة، وانا واحدا منهم، متروك للاخرين تقيمها فيما اذ كانت تلك الطروحات مفيدة فعلاً او ان تلك الكتابات مطلوبة حقاً. وعموما فان مهمة النقد المعماري عندنا يعتريها كثير من الغموض وتشوبها كثير من عدم الدراية، فالجميع بضمنهم المعماريين العاملين متفقون على حاجة النقد لتقويم العملية التصميمة الجارية ؛ لكن كثر من المصممين لا يكترثون للنص النقدي، ويطمحون، داخل قلوبهم، ان يكون النقد الموجه لهم مفعما بالاطراء ومترعاً بحسن التقريظ ؛ بل ويشعر بعضهم بضيق اذا كان الاطراء مخصص الى آخرين. واعتقد بان هذه الحالة ستظل سائدة في الاوساط المهنية، وحتى شائعة فيها ما لم يتحدد بصورة واضحة ومقنعة دور الفعالية النقدية وواجبها واهميتها في العملية التصميمية. من هنا، في اعتقادنا، يتعين بدءا الاقرار بصوابية مقولات " الرابطة العالمية للنقاد المعماريين " Comite International des Critiques d’ Architecture (CICA) بان "النقاد ليسوا بقضاة، كما ان المعماريين المصممين ليسوا بمتهمين!" فللنقد المعماري دور مهم يتخطى بالطبع مثل هذا المفهوم. انه معني اساسا في تفكيك ونزع كل انواع " التابوات "، انه تواق الى اقتحام كل انواع التقاليد وازالة تأثيراتها السلبية عن العملية التصميمة ؛ انه يسعى وراء تطور الفعل المعماري التائق الى تحسين نواحي الحياة المختلفة، كما انه يحرص على استنهاض قوة الجهد الابداعي للوصول الى تخوم تصورات فردية وجماعية معبرة وساطعة. عدا ذلك، وخارج اطار تلك المناخات، فان كل ما يقال سيكون بعيدا عن مهام النقد الحقيقية . ليس انا وحدي من يؤمن بتلك المنطلقات، انها جزء من " مدونة " معرفية وحتى اخلاقية، يطمح الناقد الجاد التمسك بها كمرجعية قيمية، معلنا تعاضده الفكري معها.
لكن مفهوم " الفعالية النقدية "، رغم وضوح تلك المنطلقات ظل في كثير من الاحيان مجالا لتأويلات عديدة افضت في النتيجة الى تعددية ذلك المفهوم والى تنوع مساراته. يذكرنا الناقد المعماري الروسي " فجيسلاف غلازيتشيف " بان كثراً من الذين يعتبرون انفسهم منظرين، بضمنهم رواد عمارة الحداثة، يطمحوا ان يكونوا " مصيبين " اكثر مما ان يكونوا " موضوعيين " ؛ " اوائل " بدلا من ان يكونوا " متجردين" و " غير محابين ". وفي رأيه بان "... اذا كانت النظرية تتقصى ايجاد تفسيرات للراهن، فان النقد معني في رسم هيئة المستقبل انطلاقا من شكل الحاضر. واذا كانت النظرية تنشد التأثير على العمارة مستعينة بافكار المعمار / المصمم، فان النقد يحث على استفزاز المخيلة.. " (V. Glazichev، Zodchestvo 3،{In Russian} Moscow، 1989، pp. 74-75)
كان لا بد من هذا الاستطراد، في بدء دراستنا المكرسة لثمانينة المعمار، حتى لا يكون ثمة مكان لتأويلات خاطئة لما يمكن ان نشير لاحقا اليه، في تناولنا بعضاً من مباني" قحطان المدفعي " ولغتها المعمارية. واذ نعي تماما فحوى المقولة الصينية " بعدم جواز الخصام في الاعياد! " فاننا نعلن باننا سنظل اوفياء لمغزاها رغم كل ما ننوي قوله في هذه المناسبة الاحتفالية ، مقدرين سعة صدر معمارنا المحتفى، وصديقنا العزيز قحطان، وكذلك نباهة قرّاء نصنا . ثمة مسار ابداعي طويل حافل بالانجازات المعمارية، اختطه المعمار قحطان المدفعي منذ رجوعه الى بلده عام 1952 بعد ان انهى تعليمه المعماري في كارديف من اعمال ويلز في المملكة المتحدة . ولا يزال هذا المسار يغتني باضافات تصميمة مهمة، نتمنى ان تكون مدار دراسة واهتمام العديدين كجزء من دراسة الانجاز الابداعي العراقي متعدد الاجناس والمنطلقات.
 ولئن حجبت المحنة المأساوية التى يمر بها العراقييون الان، ادراك اهمية ماتم اجتراحه سابقا، اوما يمكن ان يقدمه ابناء العراق المبدعين لبلدهم وللانسانية ‘ فان ذلك لا يعني البته نكران قيمة ما تحقق وتناسي تأثيراته العميقة على مجرى الاحداث الثقافية المحلية والاقليمية. فما تم عمله من قبل مبدعي العراق، وقحطان المدفعي احدهم ، يعد عملا تحديثيا رائدا وبطوليا، رغم ما اكتنف ذلك العمل من محددات كثيرة وما جابهة من عراقيل متنوعة. واذ نقرّ باهمية ما ارتبط باسم المدفعي من اعمال معمارية مختلفة وعديدة ضمن مساره الابداعي الطويل، فان دراستها او في الاقل اعادة قراءة ماتم اجتراحه، تجيز لنا اجراء تقسيمات تحقيبية تساعدنا في النظر بترو الى ما تحقق، من دون اسقاط فكرة باننا نتعاطى مع منجز متكامل غزير التنوع في مواضيعه وشديد التباين في تقييماته. ونرى ان انجازه في عقد الخمسينات اتسم بخصوصية متميزة، وهو يختلف عن ما تم تحقيقه من مقاربات معمارية في عقدي الستينات والسبعينات ‘ في حين خلى عقدا الثمانيات والتسعينات من اية اعمال مؤثرة بسبب انكفاء النشاط الاستشاري بالعراق اثر الحملة الظالمة التى شنها النظام التوتاليتاري ضد المكاتب الاستشارية العراقية جميعها محاولة منه تدجين مصادر الابداع المحلي والاستحواذ عليها، ما افضى الى ردة ثقافية حقيقية، لا يزال العراق يعاني من تأثيراتها الكارثية، ومن نتائج ما " زرعته " الديكتاتورية الغاشمة من " قيم " عنصرية حاولت بها اطفاء جذوة الابداع العراقي وحرف مساره باتجاه طرق لا تفضي الى اي افق معرفي جاد اومفتوح، وكرست غربته بالنأي به بعيدا عن تقاليده الحداثية واهتماماته الطليعية.بالطبع لا يمكن فصل نتاج قحطان المدفعيالخمسيني عن " جيشان " الافكار التحديثية الموار بها الخطاب الثقافي العراقي وقتذاك. كانت " لوثة " التجديد الشغل الشاغل لكل مبدعي العراق ابان تلك الفترة ؛ التجديد المقترن دوماً بالافكار الطليعية والتقدمية. وكان نجاح الافكارالتحديثية في جنس ابداعي معين ينتقل تأثيره بسهولة الى اجناس آخرى، مكونا متوالية من تأثيرات متبادلة تبدو حركتها المصطخبة وكأنها دفق لا يريد ان ينقطع .
تكاد تكون حادثة فوز قحطان المدفعي في المسابقة المعمارية التى نظمت في خريف 1952، لاختيار احسن التصاميم الخاصة بدور موظفي مصفى الدورة ببغداد، الشرارة التى اشعلت " هشيم " التطلعات المختزنة لديه والتائق الى تحقيقها. كما ان هذه الحادثة التى تبدو وقائعها امرا معتادا ومألوفاً، استطاع المعمار ان يحّول تداعياتها وتبعاتها الى ما يشبه الحدث الاكثر اثارة في الوسط المعماري حينذاك، جاعلا منها متكأًً لانطلاقاته التصميمة القادمة. والحال ان مفارقة فوزه يومذاك، وهو المتخرج تواً (تقاسم معه الفوز المعمار جعفر علاوي)، والعائد الى بغداد قبل فترة قصيرة، اكسبته ثقة عالية بمقدرته المهنية وحفزته لارتياد " مغامرات " تصميمية آخرى، تحضر فيها، كما في دور مصفى الدورة، واقعة القطيعة التامة مع تقاليد المكان البنائية في لغة مباشرة تدفعه لتوظيف " موتيفات " تكوينية خاصة تبدو لنا، الان، من الصعب تبرير استخدامها والتعاطي معها ضمن محددات طبيعة الظروف المحلية السائدة. اذ كيف يمكن على سبيل المثال، ان نجدا تعليلا مقنعاً لاستخدام مفردة " السقف المائل المزدوج " Double-pitched Roof الموظفة بشكل صريح في عمارة تلك الدور والتى تذكرنا هيئاتها المائلة بالاجواء الماطرة اكثر بكثير من ان توحي الى جو بغداد الشحيح الامطار؟. في حين مثلت الفتحات الواسعة للنوافذ ، المحمية بتعريشات خشبية، عنصرا مفاجئا وجديدا في سياق عمارة الدور السكنية العراقية. وعلى حين غرة، بات المعمار الشاب الاتي من مناطق "ويلز" البعيدة " نجما " معماريا واسما حاضرا في الوسط الثقافي، معززا وجوده بتمسكه بلقبه الطويل " قحطان حسن فهمي المدفعي " الذي يشي الى انتمائية معينة.
وكما كان متوقعا فان المعمار الشاب انغمس في نشاط تصميمي زاخر، مثيرا ذهول النخبة البغدادية المثقفة ودهشتها بسلسلة من تصاميم متفردة ذات لغة معمارية استثنائية وقوية التعبير، انطوت على تنوع تكويني شديد، بحيث لا يماثل تصميم احدها الاخر!.

 بيد ان عمارتها مع ذلك اتسمت على حضور هاجس مزدوج تنشد به تخطي تقاليد الماضي باستمرار والانفتاح على مقاربة طليعية تستفز الذائقة الجمالية المعتادة وتتجاوزها باساليب مبتكرة وصادمة. ولعل تصاميمه لبعض الدارات السكنية ببغداد عكست بوضوح ما كان يتطلع اليه المعمار،مثل تصميمه " لدارة المنصور " (1955) التي مزج فيها بصورة غير متوقعة التراكيب الانشائية المتنوعة كالرافدة Truss الحديدية المكشوفة مع نظام الجدران الحاملة وتلوين اجزاء المبنى بالوان متعددة، فضلا على ادخال القطع النحتية في التكوين كجزء من الاخراج التصميمي العام، ما منح واجهته هيئة مميزة حافلة بالاحساس التعبيري، جاعلا منها مفردة تصميمية متفردة لا تشبه بالمرة واجهات المباني السكنية المألوفة. في احد تصاميمه لبيت سكنى آخر تاق المعمار الى اضفاء قيمة تشكيلية خالصة له بمنح صديقه فنان العراق الموهوب " جواد سليم " فرصة تزيين سطح جدار الدار برسوم تجريدية مشغولة من السراميك الملون. لم يتسن لي مشاهدة هذا البيت ولا اعرف اين موقعه، لكن " الين الايوبي " وفي مقال نادر نشرته في مجلة " التصميم المعماري " اللندنية (Architectural Design March،1957.pp.79-80) تشير اليه كاحدى تمثيلات الحداثة في العمارة العراقية. ورغم تواضع مقياسه وكتلته فاني ارى فيه نوعاً من اعادة لتقليد عراقي قديم يسعى الى مشاركة المعمارمع الفنان لانتاج صنيع معماري / فني جديد بمواصفات مختلفة.
في سنة 1954 صمم قحطان المدفعي مخططا نموذجياً لمجموعة دور سكنية متماثلة لحساب شركة المنصور، التى نفذتها لاحقا في حي المنصور ببغداد . في عمارة هذه الدور يحرص المعمار الى تضمين التكوين لمفردة الفناء المكشوف الشائع في عمارة البيوت التقليدية ويمنحه اهمية العنصر الاساسي فيه. لكنه (اي الفناء) يتبدى هنا في شكل آخر، شكل ناتج عن فعالية التأويل التى اجراها المعمار على تلك المفردة التقليدية. في فترة السبعينات قدر لي ان اسكن بالقرب من تلك المجموعة السكنية وعندما كنت امر بجانبها كنت اشعر بان لغتها التصميمية ما برحت تؤكد اختلافها عن سياق ما كان يتاخمها من بيوت عادية، كانت هيئات فتحات نوافذها وابوابها وطريقة رصف الطابوق فيها واستخدام المناسيب المختلفة كلها تشي بالنأي المتعمد عن اشكال مثيلاتها في بقية البيوت السكنية الاخرى. في جميع مبانية ولاسيما في فترة الخمسينات وخصوصا في الابنية السكنية ظل هاجس التغيير والتوق الشديد لاجتراحتصاميم تنطوي على تعبيرية مفرطة ذات اشكال معقدة،ومخالفة لسياق ما هو مألوف من ذائقة بصرية وفنية، ظلت احدى السمات الواضحة في عمارة المدفعي. ولم يخفف من غلوائها او يقلل من نزوع الافصاح المباشر عنها سواء بمناسبة او غير مناسبة، عمله مع مكتب " قنسطنطين دوكسيادس" (1913-1975) C. Doxiadis، (المكتب الذي اضطلع بمهام انجاز المشاريع الاسكانية في العراق يومذاك) ؛ والمتسم نتاج عمارته، كما هو معروف، على تكريس الوظيفية المباشرة واستخدام الهندسية الصافية لتحقيق تلك الاهداف. على عكس ما تأثر به على سبيل المثال، المعمار المصري " حسن فتحي " (1900-1989) الذي كان وقتها ضمن العاملين مع مكتب دوكسيادس وقدم مشروعا اسكانيا لبغداد عاكساً بعمارته كثير من تطلعات المصمم اليوناني ذي المنحي الوظيفي العاري، والمهوس باستخدام الاشكال الهندسية البسيطة بالضد ما معروف عن المعمار المصري الشهير تبنيه وولعه توظيف العناصر الشعبية التقليدية!.
لقد تعززت مكانة المدفعي التصميمة كثيرا جراء اشتراكه مع معمارين عراقيين بضمنهم "عبد الله احسان كامل " وفوزهم لاحقا في مسابقة معمارية لتصميم مصرف الرهون (1957) على شارع الجمهورية حاليا . واعتبر المبنى بمقياسه الهندسي الضخم احد الاحداث المهمة في المشهد المعماري العراقي، كما انه امتاز على لغة معمارية صافية ومقنعة في مفرداتها. وعدّ قرار تجزئة فراغات المبنى الادارية الى كتلتين مختلفتين في السعة ومتصلتين فراغيا من القرارات التكوينية الرائدة التى يشتغل المصممون العراقيون عليها. ووفقا لحديث سابق اجريته مع المرحوم "عبد الله احسان كامل " في بداية الثمانينات، اخبرني بان الكتلة الصغيرة المخصصة لاجتماعات ادارة مجلس المصرف كانت في الاصل مكعبة الحجم، بُدلت الى اسطوانية تماشيا مع شكل الساحة القريبة التى " ظهرت " فجأة، بعد تنظيم المسابقة، عندما استحدث شارع " الملكة عالية " في 1957، الذي تغير اسمه لاحقا الى " شارع الجمهورية ". ثمة مبنيان آخران متعددا الطوابق صممهما قحطان المدفعي قبل وبعد اشتراكه في مسابقة مصرف الرهون ؛ وهما المبنى المتعدد الطوابق الواقع في منطقة " باب المعظم " ببغداد، والذي شغلته لفترة طويلة مديرية الاشغال العسكرية. والثاني يقع على شارع قريب من ساحة النهضة.

 لا يمتاز الاول بجهد تصميمي ملموس او مميّز، عدا " ضخامة " مقاساته (اربعة طوابق) وفقا لمعايير بغداد البنائية وقتذاك. انطوت واجهة المبنى على حضور لافت لشرفات " بالكونات " خدمية وضعت فيها اجهزة "المبردات " الوسيلة الشائعة لتبريد المبنى وقتذاك. وقد استطاع المعمار ان يشتغل على وجود تلك المفردة التصميمة فنياً، ما اكسب واجهته لمسة جمالية متواضعة . عدا ذلك لم تحمل عمارة المبنى مفاجأت تصميمة، متوقعة من معمار باتت مقاربته التصميمية قرينة للتجريب وللتعبيرية الصارخة. لكني كمتلقي، اظل اتعاطف كثيرا مع حلول واجهات المبنى الاخر في شارع النهضة، الحلول الحافلة بحضور " النفس " القحطاني " المتمرد ، بالمعنى الايجابي للكلمة، والتائق لان يكون عمله حدثاً في المشهد المعماري المحلي، والرافض لان يكون مجرد اضافة عادية تضاف الى شواهد البيئة المبنية. ثمة ايقاع منتظم لمنطقة سطوح محيط فتحات النوافذ شكل " الموتيف " الرئيس لاسلوب معالجة الواجهة الامامية، ايقاع يسعى المعمار الى تأكيد حضوره بوسائل متنوعة منها تعاقب بروز وارتداد السطوح المحددة لمحيط تلك الفتحات، ومنها استخدام اللون المختلف المشغول فسيفسائيا.
 
 وتبدو عمارة المبنى او بكلمة ادق واجهته حدثا مميزا شديد التعبيرية ضمن السياق البنائي المحيط. واذ اشير الى واجهته فقط، فانني يصعب عليّ اطراء اسلوب المخططات الافقية التى لم يستطع المصمم ان يرتقي بها الى مستوى حدث الواجهة الامامية. وما يتعين ذكره في هذا المقام بان حيوية الجهد التصميمي للمعمار وقوة نشاطه الابداعي احياناً تستنفذان بالاشتغال على عنصر تكويني مختار ومحدد، في حين تبقى العناصر التكوينية الآخرى التى قد تكون اهميتها غير قاصرة عن اهمية ذلك العنصر المختار، نهباً لعجالة القرار التصميمي المنطوي غالباً على مداخلات صدفوية.
لقد توافق نزوع قحطان المدفعي نحو تمّيز لغته التصميمة، التى بدت ظاهرة جدا منذ فترة الخمسينات، مع ثيمة عمارة " المعارض " ؛ الثيمة التى تنحو كما هو معلوم نحواً باتجاه تبجيل الحل التصميمي المتفرد المثقل بالمفاجاءات. ولعل هذه الخاصية هي التى اسهمت في اختياره، وهو المعمار المتخرج قبل فترة قصيرة ، كمصمم لجناح العراق بمـعرض دمشق الدولي سنة 1958. الذي تبدو فيه الانتقالات السريعة والمفاجئة في ترتيب الاحياز وهيأتها وكذلك اختلاف مسارات انظمة الحركة Circulation المنتخبه أمراً واضحاً ومتعمداً لجهة تكريس المفهوم الأستعراضي " لثيمة" المبنى الرئيسية. في عمارة الجناح يوظف المعمار التأثيرات الناجمة عن استخدام تضاد سطوح المبنى الصلدة مع المفرغة، وتعاكس خطوط تقسيمات الكتل العمودية مع الأفقية، كما يلجأ إلى الأسلوب الحرّ في توقيعات كتل " الجناح" في الموقع المخصص، ليزيدنا إحساس بكثافة " الجرعة" التعبيرية للمنشأ المصمم . وفي وقت لاحق صمم المعمار كثير من اجنحة المعارض اتسمت عمارتها بالحركة القوية وحضور المعالجات التكوينية غير المتوقعة.

*عنوان الدراسة مستوحى من عنوان كتاب روبرت فنتوري: " التعقيد والتناقض في العمارة ". 
* ادخلنا في هذه الدراسة بعض مقولاتنا من دراسة سابقة عن المعمار. د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
كوبنهاغن، ايلول 2007






رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  خالد السلطاني


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM