(اللون، مثل الموسيقى، لَه القوَّة لتَجْسيد بعض مِن اعمق عواطفنا. على أية حال، هو أيضا _وهي من المفارقات -أكثر عرضة لمخاطر التعامل الجاهز، والتأثير التزييني والتكلّف السطحي) ستيفن نيوتن
شكل تبني الاساليب الفنية الغربية الحديثة والمعاصرة بشكل او باخر ومحاولة الاستفادة منها ظاهرة عالمية فكان ان حاول الفنانون في مختلف البيئات المحلية الاقتباس والاستفادة من الاساليب الفنية لمسايرة ذوق العصر مع الحفاظ قدر الامكان على الطابع المحلي.
ومن هذه الاساليب الفنية الاسلوب التكعيبي الذي ظهر في البدء في اعمال بيكاسو وبراك (1)، ويبدو ان هذا الاسلوب قد ترك اثرا كبيرا على الفنانين العراقيين على مختلف اجيالهم الفنية ، اذ اصبح الشكل الهندسي بمختلف وسائل المعالجة التي تبناها الفنانون مكونا بارزا في اللوحة الفنية العراقية (2)، والحقيقة ان شيوع الشكل الهندسي مع هيمنته الخطية على قماشة الرسام العراقي يحمل المتابع على التساؤل ان كان هناك اسلوب فني حديث اخر استطاع ان يفرض وجوده على الفنان العراقي اكثر من الاسلوب التكعيبي. يجب الاشارة الى ان التوجه للتكعيبية اقترن بالتاكيد على الخط بوصفه من عوامل تقوية الشكل ، يقول مؤلف كتاب مائة عام من الرسم الحديث في معرض حديثه عن الفنان جورج براك George Braque ( حين شرع براك عام 1907 يدير ظهره للوحوشية كان هدفه تقليل قوة اللون من اجل زيادة قوة الشكل لا لتاكيد الخط وحسب بل الحجم ايضا (3). ولكن كيف كان تعامل الفنان العراقي مع الاسلوب التكعيبي ، وهل تمثله بالطريقة التي تمثله بها بيكاسو وبراك -و غيرهم من رواد التكعيبية- وهم يسعون لخلق لغة بصرية جديدة في المشهد الفني؟
قبل الاجابة على هذا السؤال ، لابد من الاشارة الى انه يمكن اختصار مفردات اللغة البصرية التي افرزتها اعمال رواد الاسلوب التكعيبي الى مفردتين اساسيتين وهما:
(أ) التقاطع الحادة في المنظور ومحاولة خلق مناطق متجاورة على درجة كبيرة من التباين الشكلي
(ب) التباين اللوني الحاد بين المساحات اللونية المتجاورة لخلق ادراك اكثر تعقيدا عند المتلقي في محاولة لنقل ايقاع الحياة المعاصرة. ساعد كل ذلك على انتاج لوحات ذات لغة بصرية متنوعة، لم تتحها الاساليب الفنية المالوفة ان ذاك.
ان المشاكسة البصرية التي نتجت عن محاولات التكعيبين لخلق لغة بصرية جديدة ومتحركة اصبحت الناتج الاكثر اثارة ، الامر الذي جعل هذه الاثارة التي خلقتها هذه المشاكسة البصرية هي الهدف عند بعض فناني التكعيبية ، حتى بعيدا عن رغبة الفنانين الاوائل في خلق مشهد متحرك متعدد الزوايا. لعبت هذه الحالة دورا في تبني العديد من الفنانين في ارجاء العالم للفن التكعيبي. اذ اصبح للفنانين لغة بصرية تمتاز بجدتها اولا و بمساحات لونية ذات حدود و تباينات لونية قوية.
يبدوا ان الاسلوب التكعيبي قد التقى مع الذاكرة الفنية العراقية في منطقة الخط والزخرفة الاسلامية التي تبنت التشكيلات الهندسية ذات الحدود البارزة، فتعامل بعض الفنانين العراقيين مع التكعيبية بنفس زخرفي او فسيفسائي محافظا على تدرجات لونية متقاربة ، كما في اعمال الفنان حافظ الدروبي الذي خلت لوحاته التكعيبية الطابع من التباينات اللونية الحادة. لقد عزف حافظ الدروبي على الفن التكعيبي بايقاع فسيفسائي، ولم يشأ ان يكسر بحدة الايقاع البصري للناظر طالما انه استطاع ان يمنحه من خلال تكسيره للمساحات الواسعة متعة بصرية جديدة وفي ذات الوقت لا يفقد التواصل البصري (التشخيصي figurative) معه.
ان كانت اعمال الفنان حافظ الدروبي محافظة في تعاملها اللوني فان لوحات فرج عبو ( تجريد اسلامي) كانت اكثر جراءة في التعاطي اللوني وقد هيمن فيها الايقاع الهندسي مع غياب العنصر التشخيصي. لا يفوتنا الاشارة هنا الى ان التجريد يمثل النهاية القصوى للتكعيبية بل ان التكعيبية هي تجريد كما ورد في تعريف التكعيبية في الـ (الموسوعة الرقمية الحرة) حيث اوردت: ( في العمل التكعيبي يتم تكسير وتفكيك واعادة تجميع الاشكال بشكل مجرد)
ان هيمنة الخط او الوحدة الهندسية على قماشة الفنان العراقي حتى في اللوحات التجريدية قياسا باللون تعطي تصورا يكاد يكون عاما بان الخط او الحد الهندسي للمساحة اللونية هو المكون الاساس للوحة الفنان العراقي . تجدر الاشارة هنا الى حقيقة ملفتة للنظر الا وهي ان مفردة (الخط) في اللغة العربية يشترك فيها الخط اي الـ line وفن كتابة الحرف العربي في حين لا وجود لهذا التطابق في اللغة الانكليزية لان فن الخط يسمى calligraphy . وقد اصدر المتحف البريطاني مؤخرا على هامش معرض اقيم لفن الشرق الاوسط المعاصر ، دراسة تشير الى مدى الارتباط الوثيق بين فن الشرق المعاصر بالحرف العربي مما جعل (الحروفيه ) واحدة من ابرز معالم فن الشرق الاوسط المعاصر، وقد اشارت الدراسة الى ان الفنانة العراقية مديحه عمر ، ربما تكون اول فنان في الشرق الاوسط تبنى الحرف العربي في اعمالها التجريدية ، كما اشار الى تجربة الفنان شاكر حسن ال سعيد رغم انه نوه بتاثير الفنان انتوني تابيس على الفنان شاكر حسن ال سعيد في هذا المجال، ولم تغفل الدراسة عمل الفنان جواد سليم (نصب الحرية) وكيف انه تبنى تسلسل الكتابة العربية من اليمين الى اليسار في ترتيب اشكال العمل) (5)
عندما نعود الى هيمنة الخط في الفن العراقي نرى، انه قلما يسمح في لوحة الفنان العراقي للون بالانفلات والتحرر خارج منطقة معينة. ان هناك دائما احتراما لحدود المساحة اللونة وغياب الميوعة والتداخل ،حتى في الاعمال التجريدية وكأن التجريد قائم على اساس فهم هندسي مقنن حتى لأشد حقائق الحياة فوضوية وثورية . حتى المشاكسات اللونية التي تحفل بها لوحات الفنان محمد مهر الدين تميل الى ان تكون مشاكسات خطية اكثر منها مشاكسة مساحات لونية ويبقى في كل الاحوال يهيمن على لوحته ذاك الاحساس بالمعمار الهندسي الصارم. يبدو وكان هناك نزاعا بين الخط واللون في اللوحة والحقيقة ان الصراع عندما اشتد بين الكلاسية الجديدة والرومانسية، كان هذا النزاع هو احدى تمظهراته، فبينما كان التركيز في الفن الكلاسي الحديث على تسيد الخط على اللوحة لدوره في اعطائها الصرامة والنبل المطلوب، كان اللون احد ادوات التمرد الرومانسي (6) ، الامر الذي دعى ديلاكروا الى القول (إن عمل الرسّام بدون تلوين هو إيضاح وليس رسم .إذا كان القصد عملا غير النقش فاللون بالتحديد هو الأساس الجوهري للرسم فاللون يعطي مظهر الحياة) (7). ويبدو ان هذا الصراع استمر في اعمال الانطباعيين ففي حين شكلت اعمال فان كوخ لبنة من لبنات التاسيس التعبيري، كان لاعمال الفنان سيزان دورها في ظهور التكعيبية التي ادت الى التجريد في احد اتجاهيه والذي يمكن ان يرى بوضوح في اعمال الفنان بيت موديريان، بينما سار الاتجاه الاخر المتمثل بالتعبيرية التجريدية في الاتجاه المقابل حيث يفرض اللون ايقاعه على اللوحة ( اعمال الفنان وليم دي كونينغ المتاخرة) (8). ان هذا الصراع جعل احد الفنانين المعاصرين وهو ستيف نيوتن يتهم اللون بلعب دور غير مقصود في تراجع فن القرن العشرين،اذ يقول (يمكن ان نلاحظ أن بذور انحطاط اللوحة الحديثة إلى التسطيح الشكلي ظهر في اعمال الإنطباعية الجديدة، بحدود أواخر القرن التاسع عشر)انه يعزو إنحطاط الفَن الحديث الى (الشكلانية المعنية باللون السطحي) مما افقده جوهره المتسامي الذي سعت الفن القديم الى اظهاره (9). هل يدعم هذا التصور مايمكن عده محاولة من الفنانين العراقيين لاظهار تحفظ شرقي يمثل فيه الخط او الحد حاجزا ضد انفلات القيمة الفنية ؟
قد يبعد هذا التصور جعل التراث الزخرفي بوصفه الدافع وراء تغلب الحضور الهندسي على المساحات اللونية الجريئة . ولكن ايا كانت الاجابة، فما تحاول هذه المقاربة ان تشير الية هو ان الفنان العراقي اكثر اقترابا لروح الفن التكعيبي حتى في لوحاته التجريدية من بقية الاساليب الفنية ما بعد الانطباعية حيث يظل الشكل الهندسي بحضور او غياب الخط الاكثر حضورا على قماشته.
________
(1) مائة عام من الرسم الحديث جي اي مولر ، فرانك ايلغر، ترجمة فخري خليل
(2) يمكن الاستعانة بموقع iraqifineart.com وموقع iraqiart.com للاطلاع على اعمال الفنانين العراقيين في مختلف اجيالهم في هذا الشان.
(3) المصدر السابق
(4) Wikipedia.com
(5) The British museum collection of contemporary middle eastern art
(6) قصة الفن الحديث. سارة نيومان ، ترجمة رمسيس يونان
(7) ديلاكروا امير الخيالية جلز نيريت،ترجمة د.فائز يعقوب الحمداني ، جريدة الاديب
(8) William de kooning, last paintings exhibition. Hermitage museum;
(9) اللون وسطوة الشكل. ستيفن نيوتن، ترجمة د.فائز يعقوب الحمداني , جريدة الاديب.
|