عمل الفنان قاسم السبتي بصمت في أسطول المبدعين من الفنانين العراقيين ، أولئك الذين تقودهم بوصلة الروح وتدفعهم أشرعة الريح بين تقنيات الفن المعاصر ومادة الشرق البصرية وبين أحداث الوطن وخصوصية الفنان ، كان يبحث بصدق عن بدائل مخيلته إزاء معاناة تربية الذات وبناء الشخصية الفنية بروح المتفائل العصامي و رغم ما يلفه من حزن قاسي داخل نفسه يخفيه بمرحه وتهكمه مع زملائه ، فقد أصر بتفاؤله على أن يطرق موضوعا ليس بجديد ولكنه ذا أهمية كبيرة مستندا على خلفية فنية أدخرها بحكم تواجده اليومي واحتكاكه الدائم والمستمر وسط الحركة التشكيلية ، وما حصل عليه من معين التراكمات الفريدة التي أكتسبها من تلك البيئة الفنية المميزة ، وذلك المحيط الفني الزاخر بالإبداع ، لقد انغمست في أعماقه وتشربت في روحه تلك التجارب والإرهاصات التي أنتجت وترسخن كمفاهيم بمحتواها التشكيلي والتقني ، سواء كانت تلك المفاهيم أشكال قديمة أو معاصرة ، المهم أن الفنان قد أدرك ضالته وسعى ينهل من ذلك الخزين ثم يقوم بمسح شامل له في معمل خبراته وميزان معلوماته التي اكتنزها أبان دراسته ، وبرغبة جامحة متلذذا بما وجده من مخلفات وبقايا أغلفة الكتب المتروكة والمتهرئة أو التي دمرها الحقد البربري لجنود الاحتلال متعمدين أو تلك الكتب المركونة على الرفوف المهجورة بفعل الزمن ! وأي زمن ؟ لكن على الأقل كانت بفعل ومس فاعل .
لقد أستطاع قاسم سبتي أن يهدم ويرمم ويعيد البناء من جديد ليسجل لحظات الخراب والانهيار والتحلل والتآكل في الأمكنة التي شهدت الحدث ويلتقط ويلم الأشياء والعناصر ، لا ليدنيها لنفسه بل ليتخذ منها مجموعة من رؤى فنية وشاهد على عصره ، تلك هي لحظة انهيار البطيء، والقابل للمزيد من التآكل والتصدع والتعرية .
والمتابع لتجربة الفنان ألسبتي يلاحظ أن أعماله ( أغلفة الكتب) ينتقل من البنائية في تجريده السابق ، إلى التفكيك في اللاحق ، وأصبحت استخداماته في المواد هي لعبة الإبداع في حرية القص واللصق لأجزاء وقطع الكارتون و الخامات المختلفة لإنتاج بنائية جديدة لمواضيع متعددة ومستمرة ولكنها كانت تكوينات إنشائية لعدة تصاميم لموضوع واحد متعدد المضامين ، وبتنسيق مرتبط بخوص المادة التي ساعدته على وضوح القيمة التعبيرية لجوهر الموضوع .
كان انتقائه لقطع الأغلفة الكارتونية لم يكن اختيارا عشوائيا حتى لو تساوت المساحات أو اختلفت الخطوط فهو ليست مقصودة بذاته ، وإنما طبيعة الزمن وما تركه المحتل وجنوده من تدمير وتخريب مع تفاعل مخلفات الماء والنار والدخان والعفونة تشربت في الكارتون والقماش والخيوط والمواد اللاصقة والورق ، وما حل من خراب استطاع ألسبتي أن ينجزه أعمالا زاخرة بدراما الحروب .
أن محاولة البحث في تكوين الفنان قاسم ألسبتي يتطلب الرجوع للبدايات ، لنشأته في الحي الصغير ( ألكسره ) المجاورة لمدارس الفن ، المعهد والأكاديمية ، وبعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة عام ( 1980 ) شارك في عدة معارض فنية جماعية وطنية ولكنه لم يفصح فيها عن رؤيته الفنية بعد ، كان منحازا للأسلوب الواقعي والتعبيري وأحيانا الأكاديمي .
لقد تريث كثيرا قبل أن يبدأ الآخرون لكي يراقب عن كثب ما يطلقه زملائه الفنانين من محاولات الصواب والخطأ متسلحا بأدواته الأكاديمية وأرشيفه التشكيلي ، لينسل بهدوء من بين زحمتهم وتكالبهم على عرض أعمالهم في بيته ( قاعة حوار ) التي فتحت بابا واسعا للتجارب الفنية الجديدة منذ تأسيسها عام 1992 ، فلم يبدأ بما أنجزه الآخرون ، بل كان قد اكتشف تلك الومضات والمؤشرات والحلول وصياغة الأهداف ، مضافا لها علاقاته الواسعة مع المثقفين ، ووعي الذات ومعرفة الجمهور المتذوق وشفافية الفن ، وكذلك فهمه العميق للعصر القائم على التغيير والتجديد وتقربه من المؤسسة الفنية ، كل هذا المؤشرات كانت له حافزا لينهض منتقلا من محدودية الواقع إلى فضاء الحداثة في رؤية جديدة نابعة من الوجدان تفعل فعلها السري في إبداعه ، متناولا الجانب المأساوي وما عم من دمار في العراق !؟ .
لقد رصد الفنان تلك المأساة بعين نافذة ، محتجة ، ناقدة ، وجرد الحدث وفكك المشهد ليعيد بنائه من خلال التوزيع المدرك لكافة عناصر العمل الفني ، مستخدما تقنية جديدة ومواد مختلفة من خلال أحادية اللون وهارمونيته ، أحمر بلون الغلاف ، وفستقي مكشوط من جانبه العلوي أو أصفر أقتلع جلده وبرزة أحشاء الكارتون القديم ، و يثيرك بتلك التأثيرات التي صنعتها ألته الحادة بعناية على سطوح أغلب أعماله من الشقوق و بقايا الحروف المبتورة لتشكل علامات تحرك الكتل و تتناغم مع المساحات المتلاصقة وتستنطقها ، مبينة الهمجية في تهديم المدن والحضارة وتسجل لحظة الانهيار الكامل .
أن أغلفة قاسم سبتي إيقونات لونية ، تتعاشق فيها الأطياف والرموز وهي تحكي لنا حالات لا إنسانية غريبة مرت بالعراق بقساوستها ولكننا نفهمها ونستشرف المستقبل من جماليات الإبداع الفني في أعمال الفنان .
د. صبيح كلش
www.kalashart.com