يعتبر التجريد في الفن شكلا ً أرقى من التشخيص الذي يسقط في المباشرة ، وهو يمنحك الفرصة للأكتشاف ويحتكم الى قدراتك الذهنية في التلقي ، دون أن يلغي منك متعة الأحساس بالأشياء ، ويعمل هذا المنحى الفني على أستفزاز رؤيتك التخيلية لما يجب أن يكون عليه العالم المحيط بك ، وبالتالي فهو يعيد تشكيل الحياة برؤية الفنان ويعطيك السماح للتفاعل مع هذا العمل الأبداعي ، بل والتأسيس عليه ، دون أن يغلق أمامك أبواب المقاربة العقلية الحسية مع نوافذ فتحها الفنان على عالم أفتراضي .. قدّر هو دون غيره ، أنها الحقيقة أو صورة الحقيقة التي يجب أن لا يغفلها أحد . إن التجريد لا يجرد الأحساس من فيض عاطفته ، بل يؤطره بجمالية العقل ، ليجد شفرة الدخول الى وعي المتلقي ، وهو يرّمز الأحساس على شكل " كودات " ، تصبح كلمة السر بين عقل الأنسان واستطالات الأحساس الفضولية الشغوفة بالتعرف على محيطها ،.. إن التجريد ينقل الأحساس من أخطبوطياته الى حالة من التحديد العقلي ومركزية التبصر ،.. إنه أيضا حالة من الترفع الذكي ( تليق بالعقل البشري ) عن مباشرة التلقي التي تتدنى بقدراتها الى مستوى الأنتباهة الحيوانية ، ولذلك نجد أن التجريد في الفن التشكيلي قد أبدع مقامته الفنية ، وأضاء أسارير النفس المتوثبة للقفز في مجهول الذات ، إنه حالة من التشكيل وإعادة التشكيل في نفس الوقت وفي آن واحد .. فهو يتجاوز الأبعاد الأربعة التي تعطيكها المدارس الفنية عموما الى أبعادٍ لا نهائية ٍ تسبح في فضاء المجهول وتتجسد في مرايا الذاكرة اللاوجودية للأنسان غير المرتبطة بالزمان والمكان ، كما أن التجريد ينأى بنفسه عن السقوط في خدع وأحابيل البصريات ، بل يستخدمها مركبا ً للوعي للوصول الى شواطيء " لا نهائيات المعرفة " ، إنه نوع من التحليق في فضاءات اللاوعي لأدراك كنه الأشياء ، فللأشياء ماورائيات ٌ تتماهى مع ماورائيات الوجود ، ولا سبيل لأختراقها بمدركات الأحساس الجميل ، بل أنها تحتاج الى سرعة عقلية تنفذ من جدار البوح الى صمت اللاشيء المطلق .. الى عوالم يتحادد فيها الضوء والظلام ، وتحلُّ فيها جغرافيا المنطق العقلي بديلا عن منطق الجغرافيا العقلية .. الى عوالم قائمة بذاتها ولا تحتاج الى الأثافي ، وتنعدم فيها لغة التعاطي الأنساني لتحل مكانها لغة الأشياء وتجلياتها في اللاوعي . إن التجريد نوع ٌ من المحاكمة العقلية ، يترأسها المنطق ، ويحاكم فيها الوعي لتخلفه عن فهم المطلق ، ولتجلية الحق في معركة اللاشيء مع الأشياء ، تلك المعركة التي تدور رحاها من قبل إنبثاق البوح حتى بداية الصمت ، والفنانون التجريديون هم المحامون الذين يترافعون عن الحق العام .
أصمتْ فالصمت ُ رداءُ اللاشيء وأقنتْ فالبوحُ جنونُ العقل ِ وقيء وحروفكَ سِفر ٌ للشيء يا معجمَ كلِّ الأشياءْ وطريدا ً يهوى الأنحاءْ إصمتْ فعيونُ الصمتِ لك النظرُ وطريقُ الصمتِ لك السفرُ إن تهوي يوما ً كالنجمة وتلفـّكَ أكفانُ الظلمة سيكونُ الصمتُ كما بوح ٍ والبوحُ كسيل ٍ من صمت ٍ فأصمتْ
والتجريد فوق كل هذا ، سياحة للعقل في عوالم الذات ، أو قل سياحة الذات في عوالم العقل ،.. فلا فرق بين الحالين ، لأنك عند المباشرة بالحالة الأولى ، فأنك تتقبل أو تتذاكر الحالة الثانية ، واللذة الذاتية أو العقلية التي نتلقاها وقتئذ ٍ ، ستنعش فينا قيمة " الهيولي " القابع خلف جدران المكونات الأصيلة لكل شيء نراه !! . |